صبراً يا إسماعيل..

خرجت من فندقي المعتاد على زياراتي المتعددة له، القريب من ساحة دامرك، مكاني المفضل وسط مدينة أمستردام، متوجهاً إلى منزل صديقي الهولندي العزيز إسماعيل الكائن في إحدى ضواحي المدينة، وعلى الرغم من الملابس الشتوية الثقيلة التي ألبسها، فإنها لم تكن كافية لتدفئني من الصقيع والثلوج المتساقطة على غير العادة، لم تألفها أوروبا منذ عقود عدة.

كان إسماعيل يجلس أمام مدفأته القديمة ووجهه حزين، على الرغم من جمال منظر نافذته المطلة على حديقته الجميلة والثلج لايزال يتساقط بكثافة، في يده قدح ساخن من القهوة وفي يده الأخرى غليونه العتيق يدخنه بهدوء، خلعت معطفي الغليظ وعلقته مع بقايا الثلوج المتراكمة عليه، ثم جلست بالقرب منه وناولني قدحاً آخر من القهوة وغليونه لأشاركه التدخين.. الآن صاحبنا لا أعرف كيف أصفه لكم، فأنا من شدة تعجبي لا أدري، أضحك عليه أم أرثو لحاله، فهو يدندن تارة، ويفكر بصوت عالٍ تارة أخرى! لم أعهدك هكذا يا إسماعيل، أين ابتساماتك المشرقة؟ أين مشاكساتك التي تتفنن فيها كلما التقيتني؟ هل هي بسبب الصقيع؟ كلا، أجابني وهو ينظر إلى حديقته عبر النافذة، إنه صقيع من نوع آخر، إنه صقيع لا يقدر عليه رجل عجوز مثلي يعيش على راتب تقاعدي بسيط، أعيش وحيداً ولا شيء يؤنس وحدتي سوى حديقتي الصغيرة، لكنني من الغد لن أكون قادراً على إطعام هذه الحديقة، وسأراها تموت أمامي تدريجياً بعيون حاسرة.

لاأزال أتذكر إسماعيل كيف كان يتعامل مع حديقته كما لو كانت مثل ابنته يرعاها ويهتم بها، فهي كل ما لديه وهو في هذه السن، ولا يستطيع الابتعاد عنها، ولكنهم أبعدوه الآن دون أي مراعاة لحالته المادية، كأنه ارتكب جريمة لأنه يخدم البيئة ويقدم هواءً نقياً يلطف أجواء المدينة.. إسماعيل لايزال يفكر في حديقته الجميلة المأسوف عليها، ثم يسألني: هل سيكون كل شيء على ما يرام في ظل استمرار تساقط الثلج؟ بماذا أجيبه وأنا أنتظر مثله أن يتوقف تساقط الثلج غير الراغب في التوقف، فمثلي ومثلك يا إسماعيل أناس بسطاء نحب أن نعيش في هدوء وسكينة، نحب أن نعيش أجواءنا نحن لا أجواء غيرنا، لا أعلم يا إسماعيل متى سيتوقف تساقط هذا الثلج الذي لم نكن مستعدين له، لننتظر.. إسماعيل لايزال جالساً على كرسيه المتدحرج، يدحرجه للأمام والخلف، فلماذا لا يتدحرج إذا كان كل شيء في الحياة أصبح قابلاً للتدحرج.

تركت إسماعيل وهو لايزال يحرق أحزانه بدخان غليونه، ينفثه بشراهة، علها تنعش روحه الخامدة والحياة تدب فيها من جديد.. حقيقة، فكرت في إسماعيل كثيراً وأنا عائد إلى الفندق، فهو أحد النماذج الكثيرة في المجتمع التي ستدفع ثمن أخطاء الآخرين، وسيتحملون ما لا طاقة لهم به، فيا ترى أيهم كان مصيرك؟ فصبراً يا إسماعيل لأن القادم أسوأ.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة