5دقائق

حقائق مشينة

حمدان الشاعر

قد تكون كل الاتهامات التي ألصقت ـ أو قد تلصق مستقبلاً ـ بجوليان أسانغ (مؤسس موقع ويكيليكس) صحيحة، فلربما كان بالفعل مغتصباً أو لصاً في المعلوماتية أو صاحب سلوك مشين، وقد يختلف كثيرون حيال درجة الفصل بين سلوك الفرد الشخصي وما يقدمه من معلومات أو حقائق أو حتى انجاز علمي أو مهني أو فني تكون انعكاساته على المجتمع المحلي أو العالمي أكثر فائدة من ضرر يعود على شخصه وذاته، ولذلك فإن قضية «أسانغ» في هذا السياق هي في الواقع أكبر من أي سلوك شخصي شائن لا يتوازى مع حجم وفظاعة الممارسات الفاشية واللا انسانية التي ارتكبت في العراق.

لم تكن الـ400 ألف وثيقة التي نشرها موقع ويكيليكس تندرج تحت مسمى أكاذيب وأوهام، بل إن أحداً لم ينفِ ما جاء فيها لأنها ببساطة تمثل تأريخاً لوقائع الحرب اليومية وسجلاً موثقاً من مسرح العمليات عما يدور من ممارسات منهجية في التعذيب والاعتقال والتنكيل من قبل قوات الاحتلال الأميركي وأجهزة الأمن العراقية، ويبدو أن نشر هذه الوثائق التي قيل إنها قد تلحق ضرراً كبيراً بالقوات الأميركية العاملة في العراق قد أثار حفيظة الكثيرين الذين فتشوا ونقبوا عن اتهامات يسددونها لمؤسس الموقع لإرباك مصداقيته والتشكيك في مقاصده، على الرغم من أن أي اتهامات هنا لن تعني أحداً في شيء، لأن الحقيقة هي الأهم وهي فضح زيف الاحتلال وممارساته، وكشف الكثير من تفاصيل مغيّبة حتى الآن، بما فيها الأعداد الحقيقية للقتلى والمعتقلين.

إبعاد الأنظار عن القضية الأصلية وشغل الإعلام بقضايا فرعية تافهة، هي في الأساس سياسة بالية وأسلوب قديم ينُمّ عن خوف غير معلن من تكشف حقائق قادمة وتوجس من تورط أسماء كثيرة تحرص على الظهور بمظهر مغاير لما تمارسه حقيقة في الخفاء، ففي مفارقة مضحكة مبكية (ومؤسفة أيضاً) أن أحد المسؤولين العراقيين صرح بعد كشف الوثائق التي تثبت تورط أركان الحكم في عصابات وميليشيات إجرامية بقوله «إن لدينا معلومات مؤكدة ومن مصادر موثوقة أن أسانغ شخص شاذ».

على الرغم من أننا اليوم في عالم جديد فيه الفضاء متاح لانتشار الخبر بسرعة الضوء إلا أن البعض ما زال يفكر بعقلية عصور الظلام يوم كان صاحب الرأي يواجه المقصلة أو الحرق لأنه تجرأ وأبدى رأياً عارض فيه الكنيسة، فاليوم ليس بمقدور أسلوب الفضائح والتشهير أن يحجب الحقيقة، فلقد حقق موقع ويكيليكس شهرة عظيمة ومساندة شعبية من كل أرجاء المعمورة لأن الناس في توق إلى معرفة الحقيقة وإدانة المذنبين وكشف المتورطين، ففي عالم اليوم لم يعد هناك أسرار ولا حاجة لانتظار 30 عاماً لنشر أسرار الحروب، فالشبكة العنكبوتية اليوم كفيلة باختصار هذه العقود وكفيلة أيضاً بإيقاف استنزاف مقدرات الشعوب وسرقة ثرواتهم تحت شعارات واهية تدعي حماية الشعب من سلطة الدكتاتور أو إنقاذ الشعوب من أنظمة لا إنسانية، اختلطت المسميات ولكن بقيت حقيقة واحدة وهي أنه لا أسرار يمكن إخفاؤها ولا حقيقة يسهل اعتقالها.

hkshaer@dm.gov.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر