في انتظار غازي جديد
كثير ما كُتب عن غازي القصيبي منذ رحيله في الأسبوع الماضي. الرجل الذي أمضى حياته في خدمة وطنه من وزير مسؤول عن إنشاء شركة سابك العملاقة إلى سفير في لندن ووزير مجدداً منذ عام 2005 حتى وفاته. في الحقيقة أتمنى لو أنه رفض تلك المهمه الأخيرة، واهتم أكثر برواياته بعد لندن، ولكن كان غازي عبداً حراً لخدمة وطنه، وقد تكون تلك الرواية الأكثر تشويقاً.
على عكس الآخرين، لم أقابل غازي، بل عرفته عن طريق قراءتي لكل ما كتب، ولكن أكثر ما أعجبني من رواياته هي حكاية واقعية لعبد اسمه سحيم، عوقب بالحرق بسبب أخطائه مع بنات القبيلة، وقام غازي بإنقاذها بمخيلته الواسعة من الضياع بكتابة أبيات من الشعر وملء الفراغات.
قليل من الكتاب اليوم ينظرون إلى الهوية الخليجية بالمنظور الذي رآه غازي، الذي حمل جواز سفر سعودياً وكتب عن مجموعة شباب من البحرين في شقة الحرية بلهجتهم، وهمومهم وآمالهم. فكان أبطال الرواية، يعقوب وفؤاد وعبدالكريم وقاسم، يسهرون في ليالي قاهرة ما بعد ثورة يوليو، ويتناقشون في السياسة والدين والأدب. ترى هل يوجد كاتب في الخليج اليوم يستطيع أن يكتب بتلك الحرية عن مواطنين في دول المجلس من دون أن ينظر إليه نظرة شك؟
ما ذكره كل كاتب أجنبي عن غازي هي قصيدة الشهيدة، عن آيات الأخرس التي فجرت نفسها عام 2002 في سوبرماركت في القدس المحتلة. كان وقتاً عصيباً في أيام الانتفاضة الثانية، ومقتل الطفل محمد الدرة بطلقات الجنود الإسرائيليين من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت هجمات نيويورك الإرهابية لم تمض عليها أشهر. وبعد أسابيع تحدث غازي السياسي عن دعمه لعملية السلامأ والمبادرة العربية التي أطلقها ولي عهد السعودية آنذاك.
رحيل غازي كان الأحدث في سلسلة وفيات لمثقفين وروائيين في العالم العربي على مدى العقد الماضي. آخرون كعبدالرحمن منيف ومحمد شكري والطيب صالح ونجيب محفوظ وغيرهم لم يكونوا محصورين بوظائف ومسؤوليات حكومية كغازي.
مع رحيل هؤلاء العمالقة هل يا ترى يظهر في العالم العربي في هذا الوضع المحزن اليوم من يساويهم؟ فجميعهم، بمن فيهم غازي، عانى وناضل لدرجة ما لإيصال كلماته وطباعة روايته. وهل يرى الخليج كتّاباً يعتبرون الثقافة الممتدة من الكويت إلى عمان جزءاً من ثقافتهم، مثلما رآها غازي والدكتور أحمد الربعي رحمهما الله؟
مع مضي الوقت سيكون عدد الذين تأثروا بروايات غازي أكثر من الذين تعاملوا معه شخصياً كحالي. من هنا يبدو لي أن سيرة غازي الروائية أأكثر فهماً من سيرته السياسية. فقد تكون السياسية هي التي حدّت من مخيلته العميقة وحرمتنا جزءاً كبيراً من حياته. من يعرف... ربما في يوم من الأيام سيقرر شاب عربي - أو فتاة - أن يفعل مثلما فعل غازي القصيبي في رواية سحيم، ويعيد سرد حكاية غازي الإنسان والسياسيأ لنا عبر مخيلة واسعة يملأ بها الفراغات.
زميل غير مقيم في كلية دبي للإدارة الحكومية
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .