نوبة حب

أقسم إن مدينة لا تستنشق عطرك الصباحي هي مدينة عرجاء، ناقصة قاسية القلب، وأن الشوارع التي لم تتذوق وقع خطواتك هي شوارع بائسة، لا تصلح لنزهة أو ضياع مؤقت أو أبدي.

ليس هذا الكلام مجرد هلوسات عاشق مهجور، يعيش نوبة حب. لا، أبداً.. بل لأنه كلما تقدم بي العمر، ونبتت على ملامحي تجعيدة جديدة، أشعر بأنك مختبئة فيها، وأنك في الليل، حين يسرقني النوم، تخرجين من الصورة لتتفقدي أحلامي وتنظمي حركتها كشرطية سير، وتتركي لي الكثير الكثير من الوصايا على الطاولة «حبة الضغط عند العاشرة، السكري عند الثانية والنصف، لا تكثر من السمنة مع البيض، انظر إلى تاريخ صلاحية علبة التونة، اسقِ النباتات قبل النوم، حاول أن تمشي ولو نصف ساعة يومياً».

ليس هذا الكلام مجرد هلوسات رجل مُخطئ يبالغ في عواطفه، بل لأني كيفما نظرت إلى العالم أجده يشبه استدارة فمك حين تتأففين، ولأني مُصِر على قهوتك الصباحية والمسائية، وعلى أي قهوة تحمل رائحة مائك، وتتحرك في الركوة على إيقاع أصابعك.

مُصِر على منزل، شرفة، وكر ضيق يجمعنا بزمن متوقف. وعلى أن تكوني اختصاراً حقيقياً لآلاف الأشياء الحقيقية والمزيفة، وأن تكوني كما أنت دائماً، امرأة مبللة بالماء والريح والملح والديمومة، امرأة تنساق خلفها الأشياء إلى مثواها، وتطوي العمر قميصاً في خزانة الملابس.

مُصِر على ملابسك أن تكون قرب ملابسي، أحذيتك قرب أحذيتي، فرشاة أسنانك قرب فرشاة أسناني، أن نثرثر عن أوجاع الرأس، وتسوس الأسنان، تقصف الشعر والأظفار، عن زراعة الشاي في سريلانكا، عن أتفه الأشياء وأعقدها. مُصِر على أنني أكره كل الرجال الذين تحبينهم، كل نجوم السينما والمطربين، والشعراء والكتاب والمذيعين والأصدقاء وعشاقك القدامى، أكره كل الأشياء المذكرة التي تقتربين منها، التلفاز، السرير، الباب، البحر، الرمل. مُصِر على أزمات تجعل من حياتنا استحالة، وانفراجات إلى درجة الملل، مُصِر على التهام أي طعام تُعدينه، سيئ الطعم، رائع النكهة، لا فرق.

مُصِر على أن توضع ثيابنا المتسخة في ذات السلة، وأن تُغسل في ذات الغسالة، وأن تُنشر على ذات حبل الغسيل، وأن تستقبل ذات الشمس والهواء.

مصر على أن تمرضي بشدة، وأن أكون معك بشدة، أن أحفظ بدقة مواعيد الدواء، أن أمرض بشدة وأن تكوني قربي بشدة، وأن تصنعي لي حساء ساخناً وشاياً بالليمون.

مُصِر أن أموت قربك كبقية الأموات، وأن تموتي قربي كبقية الأموات، أن أحزن عليك حتى الانفصام، وأن تحزني علي كذلك، أن نأخذ ما يكفي من الورد إلى قبرينا، أو أن نكون عجوزين طيبين جداً، وحكيمين جداً.

مُصِر على أن أكتب لك رسالة ملتهبة كلما غبت لدقائق خلف أي باب. أن أرتدي ثيابك حين تغادرين المنزل، أن استخدم أصابع حمرة شفاهك، مشابك شعرك، وأن أدهن جسدي بكل أنواع الكريمات، أن أتعطر بعطرك، أن أحتضن جسدي سنوات إلى أن تهطلي من جديد. وأن أكون رجلاً صالحاً، وطفلاً صالحاً، لا أصرخ لا أناقش، لا أتردد عن تنفيذ كل الأوامر، وألا ألوث لحيتي بالحساء، وأن أغسل يدي قبل الطعام وبعده، أن أستحم كل يوم مرتين، أن أغسل قدمي كلما عدت من اللعب. أن أكتب واجباتي المدرسية وأن أحصل على 10 على 10 في الرياضيات، وأن أدخل كلية الطب والهندسة، أو أن أفشل دراسياً، أن أصبح شاعراً، روائياً، سائق سيارة أجرة، بائع خضراوات، جزاراً، فقيراً غنياً. مصر على أن أكون أي شيء تريدين.

مصر على أن وطناً ضيقاً لا يتسع لنا، ولن يجلب لنا إلا العار، مصر على هامش بحجم الكون ليتسع جنوننا الصالح.

.......

قد لا أكون متزناً بما يكفي لعيش قصة حب حتى النهاية..

لأنني أشبه تلك الوردة الأليفة التي تختلس النظر من فوق السور طمعاً بيد غريبة عابرة.

 

hazemm75@hotmail.com

الأكثر مشاركة