حروب الإنسان
ربح الإنسان تاريخياً الحروب الشرسة التي خاضتها ضده الكائنات الدقيقة التي نشرت الأمراض والأوبئة، وإن كان الثمن، في عصور عدة، أرواح عشرات الملايين، ولكن الجنس البشري بقي يكافح بشراسة، وحافظ على نوعه من الانقراض، وفاز من الحروب بمناعة وقوة بنيوية هائلة، وفي الوقت نفسه صنع الأسلحة المضادة للجيوش المميتة من تلك الكائنات، فأصبح كثير منها مجرد علامة سوداء في التاريخ.
اكتشف الإنسان واخترع أدوات المعركة التي لا تنتهي، وعرف كثيراً عن أعدائه في الخفاء، فأصبح ممكناً مشاهدة الميكروبات، مثل الفيروسات والبكتيريا والطفيليات والفطريات، ثم كانت فتوحات عظمى بفضل محاربين كبار من أمثال الهولندي لوفنهوك الذي اخترع المجهر، وألكسندر فيلمنغ الذي اكتشف البنسلين، وإدوارد جنر مكتشف مصل الجدري.. وغيرهم كثير من العلماء الأفذاذ الذين أسهموا في حماية البشرية من الهلاك.
كانت الحروب معروفة، ولا جدال على طبيعة الأعداء، أو من أين يأتون. ولذلك حقق الإنسان انتصاراته المتتالية، ولم يُثر أحد على مدى التاريخ البشري الشكوك حول مصادر الأمراض، ومسؤولية الإنسان المباشرة عن تخليقها ونشرها، إلى أن أصبحت للدواء شركات عملاقة، وللصحة العامة منظمات ووزارات وهيئات ونقابات، وحول ذلك أسواق ضخمة للأمراض والأدوية، وشمال متطور، وجنوب متخلف، وما بينهما ملايين من الفقراء والمعدمين.. والمجاعات.
الآن، يثير مرض أنفلونزا الخنازير الشكوك حول تخليق الفيروس المسبب له (إتش1 إن1) في المختبرات، وتُعمق ذلك السرعة المريبة حول تكليف ثلاث شركات دوائية عالمية بصناعة اللقاح، أي ربما أن العدو هذه المرة ليس من الخارج الطبيعي، وإنما من الداخل، حيث يُقاتل الإنسان بني جنسه، ليحقق مصالح ديمغرافية أو اقتصادية.
لعبة أمم، أو هكذا تبدو، والذهاب بها إلى عقلية المؤامرة ليس حكراً على أمة دون أخرى، فالغرب والشرق منهمكان في الحدث، وثمة من يؤكد نظريات، ولا تجد في المقابل من يدحضها بمثلها، تخليق الفيروس في المختبر بناء على تركيبه الجيني لايزال من دون رد، المخاوف حول آثار اللقاح المرتقب لاتزال من دون ردّ علمي قاطع، والناس حول العالم منقسمون بين من ينتظر تصنيعه ليتلقى منه حقنة، ومن اتخذ مسبقاً موقفاً حاسماً برفضه.
منظمة الصحة العالمية التي منحت حق صناعة اللقاح لم تشكل لجنة لمعرفة مصدر الفيروس، والرد على من يدعون تخليقه إذا كان فعلاً فيروساً قادماً من الطبيعة، ومعروف الأصل والتاريخ، أم غير ذلك.
حال عميقة الريبة. فاللقاح بحد ذاته اكتشاف عبقري توصل إليه الإنسان لمحاربة الأمراض وصناعة مناعة ضدها، ومجابهته بالشكوك والتخوف تحرم الإنسان من الاستفادة من نتائجه، ولا أحد يعلم تماماً خطورة رفض الناس لقاح أنفلونزا الخنازير، كما أن أحداً لا يعلم تبعات انتظار كثيرين تجربته على آخرين، ليقرروا موقفهم منه.
ولذلك، فإن على المنظمة العالمية، والأمم المتحدة، والدول الكبرى أن تسخر إمكاناتها العلمية الهائلة لإزالة كثير من الغموض والشكوك حول أصل الفيروس المسبب للمرض، فالأمر يستحق حملة دولية، وقطعاً ستكون كلفتها المادية والمالية أقل كثيراً من الحملة الدولية ضد الإرهاب، وأكثر جدوى في كبح جماح الإنسان على صناعة الموت ونشره.