صوت بلا صدى

عندما قال المفكر الراحل عبدالله القصيمي إن «العرب ظاهرة صوتية» ظل بعض الكتاب يستشهدون بهذه المقولة في سياقات مباشرة لا تعكس المدلول العميق للظاهرة الصوتية المتجذرة عند أمة العرب.

ولو تأملنا تاريخنا الممتد بتراثه ومحطاته المتعاقبة لوجدنا انه يحتشد بتجسدات متعددة لهذه الظاهرة، من الخطابة إلى الشعر إلى المعارك الفقهية والسياسية التي لم تنتج معرفة حقيقية تتصل بالزمن الحاضر ومتطلباته.

كما أن تاريخ الثقافة العربية يحفل بإرث هائل، يصب معظمه في خانة الأدب، وما يجاوره من اشتغالات لغوية مكرسة لاستجلاء الفصاحة والبلاغة ومديح اللسان العربي المبين.

هذا المنجز البلاغي الكمي لم يكن ينتج بالتوازي مع منجز فلسفي وعلمي مساوٍ له في الغزارة، بل إن البلاغة أخذت نصيب العلوم الطبيعية وأزاحتها إلى خارج دائرة التفكير والتأمل.

ومعلوم أن التقدم الذي شهده الغرب لم يكن بفعل قصائد شكسبير أو روايات ديكنز أو مواعظ بابا الفاتيكان، بل بفعل ما أنتجه المفكرون والعلماء من معارف ونظريات علمية في شتى المجالات والفروع.

مع ذلك لازلنا نتباها بكون الشعر هو ديوان العرب الأول والأخير، فيقال عن موريتانيا انها بلد المليون شاعر، وعن السودان انها تمتلك أراضي خصبة تمكنها من أن تصبح سلة غذاء للعالم العربي.

لكن واقع الحال يقول إن سلة الغذاء الخيالية في السودان لم تستغل لمكافحة المجاعات المتكررة في الجنوب، كما لم تفلح قصائد الموريتانيين في الحد من الانقلابات في الحياة السياسية.

ما تأملنا في البعد الصوتي المهيمن على طرائق تفكيرنا وانفعالاتنا فسوف نجد أن هذا البعد يمارس حضوره في الحياة العربية على المستويات كافة.

فعلى صعيد الفكر السياسي، وبعد أن خرج الاستعمار الغربي من البلدان العربية التي تعرضت للاحتلال، تبازغت أطياف شتى من الأحزاب والأفكار التي تقاسمتها تيارات قومية ويسارية، لم تجد إرثاً محلياً تستند إليه لبناء تصوراتها النظرية لتحديث المجتمع، فلجأت إلى استعارة اطروحات فكرية معزولة عن الواقع، ومع مرور الوقت وانهيار الاتحاد السوفييتي، بدت المشروعات السياسية الطليعية مجرد انعكاس للاستقطاب الدولي خلال فترة الحرب الباردة لا أكثر.

هذا هو السياق الذي يمكن أن ننظر من خلاله إلى تجربة اليسار العربي، الذي وإن بدا نخبوياً، وإن كان يستأثر بالشريحة المثقفة منذ منتصف القرن الماضي، إلا أنه لم يشذ عن القاعدة، باعتباره إحدى الظواهر الصوتية التي كانت مجلجلة في الماضي، ولم تترك صدى في الواقع المعاش، ناهيك عن المستقبل.

slamy77@gmail.com

الأكثر مشاركة