دفاعاً عن كبوة «اتصالات» الأخيرة

سلطان سعود القاسمي

من طبعي أن أصدق نظريات المؤامرة على رغم كثرتها من حولنا في الشرق الأوسط. لذا، فقد يُفاجأ الكثيرون إذا ما طرحت نظرية مؤامرة في ما يخص المحاولة الفاشلة الأخيرة، التي يعتقد البعض أن قامت بها شركة «اتصالات» الشهر الماضي لتثبيت برنامج على هواتف «بلاك بيري» الخاصة بمشتركيها.

لا شك أن أجهزة الاستخبارات الأميركية على كثرتها قد تلقت بعد هجمات نيويورك صفعة مفاجئة، دفعت بإدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في عام 2002 إلى اتخاذ تدابير صارمة لتجميع الأجهزة الأمنية البالغ عددها 22 جهازاً، بما في ذلك «وكالة الأمن القومي» (التي تتولى مراقبة المحادثات والرسائل الهاتفية داخل الولايات المتحدة) تحت مظلة «وزارة الأمن الوطني». وقد ارتأت الحكومة الأميركية آنذاك، أن مصلحتها في الدفاع عن نفسها تقتضي منها التوغل مجدداً خارج حدودها لجمع المعلومات حول مشتبهين في العديد من بؤر التوتر حول العالم، لاسيما منطقة الشرق الأوسط. وفي ذلك السياق، تم اتخاذ سلسلة من الإجراءات الأمنية، بما فيها «قانون تعزيز وتحسين مراقبة الاستخبارات الخارجية لعام 2006»، الذي تم تعديل صلاحياته ليشمل مراقبة الاتصالات الهاتفية والرسائل القصيرة والإلكترونية خارج الولايات المتحدة (وهذا بالطبع يشملكم جميعاً).

ومن يظن في أيامنا هذه أن تفاصيل بطاقته الائتمانية، ورسائله القصيرة، وبريده الإلكتروني، ومحادثاته الهاتفية النقالة محصنة ضد اختراق أجهزة الاستخبارات الأجنبية (مهما كانت الضمانات التي حصل عليها)، فهو بالتأكيد إنسان ساذج يفتقر إلى الإلمام الكافي بالتقنيات الحديثة، إن لم نقل أسوأ من ذلك. وليست مكالمات أجهزة «بلاك بيري» أو رسائله استثناءً لهذه القاعدة.

أولاً، لم يشهد تاريخ الإمارات العربية المتحدة أي سابقة تجسس على الأفراد من قبل، بل لطالما كانت البلاد منارةً للتقدم والتسامح والاعتدال في المنطقة. وثانياً، لا تمتلك أي حكومة في المنطقة أو العالم الميزانية التي تمتلكها «وزارة الأمن الوطني» الأميركية، والتي تتعدى الـ40 مليار دولار سنوياً، يتم تخصيصها بالإضافه الى الميزانية الإجمالية المخصصة للدفاع البالغة 534 مليار دولار. وبالتالي، فإن أحداً لن يستطيع منع «وزارة الأمن الوطني» الأميركية من التجسس على أحدهم عندما تقرر ذلك، ولا حتى شركة «اتصالات».

ومن السذاجة أن نعتقد بتجسس «وكالة الأمن القومي» على أكثر من 200 مليون شخص من عملاء شركات الاتصالات في الولايات المتحدة، فيما تستثني سكان الشرق الأوسط من ذلك. وفي واقع الأمر، يتم جمع مثل هذه المعلومات باستخدام أساليب ذكية تعرف بـ«التنقيب عن البيانات»؛ وهي لا تعني بالضرورة تسجيل المكالمات التي يقوم بها كل فرد، بل تقوم بمراقبة عبارات وكلمات محددة قد تثير الشكوك حول أحد الأفراد أو المؤسسات.

ولم يشر الخبر الصحفي الأخير الذي أصدرته شركة «ريسيرش إن موشن» الصانعة لأجهزة «بلاك بيري»، والذي صيغت عباراته بمنتهى الدقة، إلى استحالة قيام الآخرين بالتجسس على أجهزة «بلاك بيري»، بل وبعكس ما جاء في ذلك الخبر الصحفي من أنه«لا يوجد أي برنامج طرف ثالث قادر على إجراء أي تعديلات على خدمات الشبكة»، فقد عمد الفريق الأمني الخاص بالبيت الأبيض إلى تعديل برمجة جهاز «بلاك بيري 8830» الخاص بالرئيس أوباما خشية تعقب موقعه أو اختراق أمنه من قبل أجهزة استخبارات أجنبية صديقة كانت أم عدوة.

فإن كانت ثمة مخاوف تعتري سكان الإمارات من قيام جهات عدة بمراقبة الرسائل الإلكترونية وجلسات الدردشة (والمغازل) الخاصة بهم، فما عليهم سوى ترقب إطلاق «سيكتيرا إيدج»، جهاز الهاتف المحمول الذي طورته شركة «جنرال داينامكس»، خصيصاً لـ«وكالة الأمن القومي»، والذي لا يتجاوز ثمنه 12 ألف درهم إماراتي؛ وبذلك لن يتمكن أي كان من التنصت عليهم، طبعاً باستثناء «وكالة الأمن القومي» الأميركية!

والحق يقال إن الزلة المثيرة للجدل في هذه المرحلة لا تكمن في إرسال ملف التحديث إياه، بل في عدم تثبيته بنجاح، بسبب امتصاصه الهائل للشحن، وإلا كان مر علينا مرور الكرام. ولعل هذا الخطأ الفادح قد كشف صعوبة تحميل تحديثات على شبكات بقية مزودي خدمات الاتصالات في دول الشرق الأوسط الآتية لا محالة. وقد تنتظر أقسام في «وزارة الأمن الوطني» الأميركية تثبيت هكذا برنامج بفارغ الصبر.

وفيما تستوجب الخدمة التي تقدمها «اتصالات» أن نفرد لها مقالاً كاملاً بحد ذاتها، لدي حدس بأن هذه المرة قد تكون الأشياء على غير ما تبدو عليه في الظاهر، أو لعلها مجرد نظرية مؤامرة شرق أوسطية أخرى.

 

زميل غير مقيم

في كلية دبي للإدارة الحكومية 

تويتر