رافقتكم السلامة

بهية بكاري كانت الناجية الوحيدة من حادث سقوط الطائرة اليمنية على سواحل جزر القمر. 152 شخصاً عاشوا لحظات مرعبة، وهم يشاهدون الطائرة تهوي في المياه. ربما فقد بعضهم الوعي من هول الصدمة قبل ذلك. لكن الأسوأ حدث حينما لم يجد المسعفون سوى جثث طافية، حفظت ملوحة الماء كرامتها الإنسانية فلم تنشر روائحها، لكن العيون كانت مغمضة بموت تام، والعائلات التي كانت متجاورة في المقاعد لم تعد تعلم شيئاً عن شتاتها في كارثة المحيط الهندي.

بهية، وعمرها 13 عاماً، كانت مع والدتها في الطائرة. وجدها المسعفون تتشبث بقطعة من حطام «الإيرباص» وسط أمواج المحيط العاتية. والدها يقول إنها فتاة خجولة، ربما تجنباً لوصفها بأنها محظوظة لنجاتها من نكبة بشرية قاسية خرجت منها بكسور في عظام الرقبة، وحروق في الركبة، بعدما أمضت ساعات في المياه في انتظار المنقذين.

ولابد أن من تابع مأساة الطائرة اليمنية تذكّر نفسه وهو يستمع إلى تعليمات السلامة قبل كل إقلاع. منذ سنوات قليلة كانت المضيفة تقف وتشرح بالحركات ما على المسافر أن يفعله إذا حدثت الكارثة، وكان الجميع يتلفت إلى أسفل المقاعد بحثاً عن تلك الأسهم المضيئة التي تدل الركاب على المخارج. شخصياً مازلت أغمض عيني وأحاول ألا أستمع لتعليمات السفر. ثمة يقين لدي بأن لا أمل في النجاة إذا سقطت الطائرة، والحظ يحالف قليلين في النجاة، والتسليم بالموت أسلم وأقل وجعاً للرأس، على اعتبار أن رأساً سيبقى ولو من أجل الصداع.

طبعاً، الأمر ليس بهذه الشجاعة، فالموت يظل محض فكرة للنهاية المحتومة إلى أن تواجهه بنفسك، أو يواجهك هو وأنت لا تدري، فأنت تصعد إلى الطائرة، وأكثر ما تخشاه أن تضيع أمتعتك بين المطارات، وكل ما تأمله أن تقلع الطائرة في وقتها لئلا تتأخر على من ينتظرك في بلد الهبوط. تنتابك مشاعر ساذجة وأنت في مشهد الدقائق الأولى الذي يحرص طاقم الطائرة على أن يكون جدياً تماماً، وعلى قدر ما في الأمر من خطورة. فأنت على متن عملاق ضخم من المعدن يطير على ارتفاع كيلومترات بين السماء والأرض، وعليك أن تربط حزام المقعد، وتكون مستعداً لأي طارئ.

دائماً، كنت أتندر بأن الجَمَل هو أكثر وسائل النقل التي عرفها الإنسان أماناً، فأنت إن سقطت من على سنامه ستصاب بكسور في أسوأ الأحوال، وستعي الحادث، وهو سيستأنف بك الرحلة بعد دقائق، في حين أن حوادث السيارات مميتة، أو تلحق العجز بركابها، وكذلك السفن التي يؤدي غرقها إلى وجبة دسمة من اللحوم البشرية تلتهمها الحيتان وأسماك القرش في لحظات.

وبعيداً عن الجمل الذي ينتمي الى عصر البطء، فإن الخبراء يؤكدون أن الطائرة أكثر أماناً من السيارة والقطار والسفينة، فهم يعتمدون على أرقام ومقارنات، ما عدا أنهم يتجاهلون رقماً مهماً في كل ذلك، وهو رقم الأحياء الذين تدع لهم حوادث النقل حياة أخرى. وهنا فإن الطائرات تبدو مثل جوارح قاتلة تحلق بين الغيوم.

ورافقتكم السلامة، فهي غاية كل العابرين سريعاً على هذه الأرض.

baselraf@gmail.com

الأكثر مشاركة