5 دقائق
الجلساء الصالحون بحمد الله تعالى كثيرون إن بحث عنهم المرء الصالح، فإنه لا يأنس بالصالحين إلا من كان على شاكلتهم، فمنهم من هو كالمسك ينضح طيباً ويفوح عبقاً، وهم العلماء الذين مجالستهم عبادة، ومذاكرتهم تسبيح، وصمتهم عظة وذكرى، ومنهم الزهاد الذين يرغبون في الطاعة، وينفرون من المعصية، ويقربون من الآخرة، ومنهم العباد الذين يشحذون الهمم لفعل الطاعات والمسارعة في الخيرات، ومنهم دون ذلك، وهؤلاء لو بحثنا عنهم لن نعدمهم في أرض الإسلام الواسعة الأرجاء، ولا سيما في بلدنا المبارك أرضا وإنسانا، إلا أن النفس قد لا تقوى على البحث لما غلب عليها من الخمول والكسل، وحب الدعة، فأين الذين كانوا يقطعون المسافات لزيارة صالح أو أخ في الله؟، ولإن كان الأمر كذلك فإن بمقدور كل إنسان أن يكون جليس أولئك الصالحين في كل ساعة وهو على أريكته الوثيرة، أو في حديقته الغناء، أو في مكتبه الفاخر، إن ذلك يكون بالكتاب الصالح، والأخ الناصح، والصدوق الصادق الذي إن كسلت نشطك، وإن نسيت ذكرك، وإن ضقت سرى عنك، يفتح لك آفاق المعرفة، ويفيدك بما لم تكن تعرفه، وينمي لك المعارف، إنه الكتاب النافع الذي خطته أيادي العارفين، ونقحته أذهان الصادقين، ونشرته أيادي المخلصين، الكتاب الذي يعلم الجاهل، ويثقف العاقل، ويصقل مواهب العالم العامل، الذي قال عنه بعضهم:
لنا جلساء ما نمل حديثهم ... الباء مأمونون غيباً ومشهدا
بلا كلفة نخشى ولا سوء عشرة ... ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
نعم هذا هو الجليس الصالح الناصح الذي لا تخشى منه فلتات اللسان، ولا ضغينة الإنسان، إنه الكتاب الذي يفيدك من علمه علم ما مضى، وعقلاً وتأييداً ورئياً مسدداً، فهو نعم المجالس والجليس والصاحب والأنيس.
إنه الكتاب الذي هو مفتاح الدراية، ومنبع الهداية الذي يزيد العاقل عقلاً فيكشف له آفاق الدنيا والأخرى، فكم بدّل أحوال الجهلاء فجعلهم في مرتبة الحكماء، ورفعهم إلى مجالس الأمراء، وصير ذكرهم مع الصلحاء.
فأين نحن من الكتاب؟ فكم نقرأ في يومنا وليلتنا؟ وما المساحة التي يحتلها الكتاب من بيوتنا؟ وما مخصصات الكتاب من ميزانية مصاريفنا؟ لقد أسهمت الدولة ولا تزال تسهم لنشر الكتاب وتوسيع دائرة القراءة، وتنمية المعرفة، ولكن كم أسهمنا نحن في ذلك؟ الكثير منا يستكثر أن يكون للكتاب مكان في بيته، أو حساب في ميزانيته، أو جزء من وقته، وهذا في الحقيقة غمط لوظيفة الكتاب، وتقصير في حق النفس، وإهمال للفكر، فإنه بحاجة إلى الغذاء كحاجة الجسم إلى الطعام والدواء، وهذا ما أدركه العقلاء حتى كان الكتاب أحب إليهم من كل حبيب، كما قال بعضهم:
حبيبي من الدنيا الكتاب فليس لي ... إلى غيره ما بي إليه من الفقر
كلانا لضيق الروح بالروح مانح ... دنواً بلا بعد ووصلاً بلا هجر
فكرسيه حجري إذا كنت قاعداً ... وإن اضطجع أفرشه مستلقياً صدري
فهل نكون كذلك؟ ونعايش تنمية المعرفة، ونتفيأ معرض الشارقة للكتاب الذي جمع كل ما لذ وطاب ويؤنس أولي الألباب؟ اللهم نعم.
* كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية والأوقاف في دبي