فنجان قهوة إماراتية على جليد القطب الجنوبي
حسين خانصاحب: الهوية لا تتجمد.. والمناخ يختبر إنسانيتنا
في واحدة من أقسى بيئات العالم، وعلى جليد القطب الجنوبي، جسّد المواطن الإماراتي والمهندس البحري، الدكتور حسين خانصاحب، معنى حضور الهوية خارج الجغرافيا، خلال مشاركته في بعثة «المحطة الجليدية 2025» الاستكشافية.
ومن قلب التجربة يروي خانصاحب، في حوار مع «الإمارات اليوم»، تفاصيل رحلة جمعت بين الاستكشاف العلمي، والتوعية المناخية، والدبلوماسية الثقافية، ورسائل إنسانية تتجاوز حدود المكان، مؤكداً أن الهوية لا تتجمد، والمناخ يختبر إنسانيتنا.
وعن حضوره في القطب الجنوبي، بينما تتحوّل أزمة المناخ من تحذير علمي إلى اختبار أخلاقي للدول والإنسان، قال خانصاحب إن «الحضور في القطب الجنوبي اليوم يعني أكثر من مجرد رحلة استكشافية أو تجربة علمية فردية، إنه اختبار مباشر لمسؤوليتنا تجاه الكوكب، حيث تتحول معرفة التغير المناخي من بيانات وإحصاءات إلى إدراك ملموس لتداعياته على الأرض والحياة البحرية والنظم البيئية، كما أنه يضع المسؤولية على عاتق الدول والأفراد على حد سواء».
وتساءل: «كيف نتصرف؟ وما الذي نستطيع تغييره عملياً؟»، لافتاً إلى أن «المشاركة هنا تجعل الإنسان يرى أثر قراراته الصغيرة والكبيرة، والدول تختبر قدرتها على ترجمة الالتزامات البيئية إلى أفعال واقعية، سواء عبر دعم الأبحاث العلمية، أو تطوير سياسات مستدامة، أو العمل على نقل المعرفة للأجيال القادمة».
وأكد: «حضورنا هناك ليس رفاهية، بل واجب أخلاقي وعملي نحو حماية الأرض والحياة عليها».
ووصف خانصاحب مشاركته في بعثة «المحطة الجليدية 2025»، بأنها تجربة استثنائية على المستويين الإنساني والمهني، شارحاً أنها «لم تقتصر على الاستكشاف العلمي، بل جمعت بين التوعية المناخية، وتطوير المهارات القيادية، والعمل الميداني في واحدة من أكثر البيئات قسوة وحساسية على وجه الأرض».
وقال إن «البرنامج التعليمي المصاحب للبعثة، والممتد على مدار 12 يوماً بدعم من (دبي القابضة)، أسهم في تعميق فهمي لأنظمة المناخ العالمية، وعزّز قدرتي على العمل تحت الضغط، بما ينسجم مع توجهات دولة الإمارات في الاستدامة والعمل المناخي طويل الأمد».
وعن طبيعة البعثة والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، قال خانصاحب إن البعثة تنظمها مؤسسة «2041» بقيادة المستكشف القطبي العالمي روبرت سوان، وتركز على ثلاثة محاور رئيسة: الاستكشاف العلمي، والتوعية المناخية، وبناء القيادات القادرة على التعامل مع التحديات البيئية المستقبلية، لافتاً إلى أن «القطب الجنوبي يُعد ركناً أساسياً في توازن مناخ الأرض، وأي تغير فيه ينعكس على العالم بأسره».
وتابع أن فريق البعثة تكوّن من 11 مشاركاً يمثلون 10 جنسيات مختلفة، تنوعت أعمارهم وتخصصاتهم وخلفياتهم المهنية، مضيفاً أن «هذا التنوع لم يكن تحدياً، بل شكّل عنصر قوة حقيقياً، إذ تحولت الاختلافات الثقافية في بيئة تتطلب أعلى درجات الانضباط والتنسيق والعمل الجماعي، إلى طاقة إيجابية موجهة نحو هدف مشترك».
وذكر خانصاحب أن «القهوة الإماراتية خلقت مساحة إنسانية صامتة في القطب الجنوبي، إذ لم يكن هناك مجال للبروتوكولات، فجلسنا حولها بلا لغة مشتركة تقريباً، ومع ذلك شعرنا بأننا نفهم بعضنا بعضا. في تلك اللحظة أدركت أن الهوية لا تُقدَّم بالكلام، بل بالممارسة».
وقال: «جلسنا على الجليد نتبادل فناجين القهوة في مشهد تجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، تحولت اللحظة إلى نموذج عملي للدبلوماسية الثقافية الناعمة، حيث تلتقي القيم الإنسانية المشتركة بعيداً عن الاختلافات، حينها تأكدت أن الهوية لا ترتبط بالمكان، بقدر ما ترتبط بالقيم التي يحملها الإنسان معه أينما ذهب».
وتابع: «في قلب البيئة الجليدية القاسية، حرصت على مشاركة زملائي جانباً من التراث الإماراتي الأصيل، وتحديداً القهوة العربية، التي لم تكن مجرد مشروب دافئ، بل رسالة ثقافية وإنسانية متكاملة، شرحت لهم دلالات دلة القهوة، وفنجان الهيف، وآداب التقديم، وما تحمله هذه التفاصيل من معانٍ تعكس قيم الكرم والاحترام».
ويلاحظ خانصاحب تشابهاً بين الإمارات والقطب الجنوبي، «فعلى الرغم من الاختلاف الظاهري، فإن هناك عاملاً مشتركاً بينهما، إذ يُصنَّف القطب الجنوبي جغرافياً كصحراء جليدية، تقابلها الصحراء الرملية في الإمارات، كلتاهما بيئة قاسية تختبر قدرة الإنسان على التكيف والابتكار، كما أن القطب الجنوبي، وفق المعاهدات الدولية، مصنف كأرض مخصصة للسلام والعلم، بلا صراعات سياسية، وهذا المشهد وجدته قريباً جداً من نموذج دولة الإمارات، التي رسّخت نفسها أرضاً للتسامح والتعايش والتعاون الدولي، حيث تلتقي الثقافات تحت مظلة إنسانية جامعة».
وعن التحديات المناخية بين البيئتين، قال إن «الاختلاف في درجات الحرارة لا يغيّر جوهر التحدي، فالقطب الجنوبي يواجه برودة شديدة، في حين تواجه الإمارات حرارة مرتفعة وعواصف رملية وغبارية، البيئتان متطرفتان وتستدعي كل منهما حلولاً مبتكرة وقدرة مستمرة على التكيف، وبعض التقنيات التي تُختبر في أقصى درجات البرودة يمكن تكييفها لاحقاً لأقصى درجات الحرارة، في إطار منهج عالمي لمواجهة التغير المناخي».
وحول التفكير في محطة دائمة في القطب الجنوبي وما يجعله تحدياً سيادياً وعلمياً في آن، شرح أن إنشاء محطة دائمة في القطب الجنوبي يتجاوز كونه مشروعاً علمياً إلى كونه اختباراً لقدرة الدول على العمل في واحدة من أقسى البيئات على وجه الأرض.
وأضاف أن القارة القطبية الجنوبية تتميز بجبال يصل ارتفاعها إلى نحو 4800 متر، وطبقات جليدية يتجاوز سمكها، في بعض المناطق، 400 متر، إلى جانب نظام مناخي شديد القسوة يقوم على ستة أشهر من الضوء المتواصل يعقبها ستة أشهر من الظلام والعواصف العنيفة.
وشرح خانصاحب أنه من الناحية العلمية، تتطلب أي محطة دائمة بنية تحتية متقدمة، وأنظمة طاقة واتصال مستدامة، وقدرة عالية على دعم الأبحاث طويلة الأمد في مجالات المناخ والبيئة والعلوم القطبية، أما من الناحية السيادية، فإن الوجود هناك يرتبط بالالتزام الصارم بمعاهدة القطب الجنوبي التي تحصر نشاط القارة في السلام والبحث العلمي والتعاون الدولي، بعيداً عن أي صراعات أو مصالح ضيقة.
وقال إن التفكير الإماراتي في الحضور القطبي يعكس رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تؤمن بأن الاستثمار في العلم والعمل المناخي مسؤولية عالمية، وأن التأثير الحقيقي للدول يُقاس بقدرتها على الإسهام في حماية كوكب الأرض وصناعة المعرفة للبشرية جمعاء.
وعن تجربة التخييم في البيئة القطبية، أفاد بأنه لم يكن نشاطاً جانبياً، بل جزء أساسي من برنامج قيادي صُمم لاختبار القدرات الذهنية والنفسية والبدنية، وقال إن الاعتماد الكامل على الذات يغيّر نظرتك للحياة، ويجعلك تعيد تقييم علاقتك بالنعم التي نعيشها غالباً دون أن ننتبه إلى قيمتها.
وأضاف أن التجربة لم تغيّر قناعته بوجود التغير المناخي، بقدر ما حوّلتها من معرفة علمية إلى إحساس مباشر بالمسؤولية، وتابع أن التغير المناخي لم يعد مفهوماً نظرياً يُناقش في المؤتمرات، بل واقع ملموس يمكن رؤيته في ذوبان الجليد وتفكك الكتل الجليدية وتسارع التحولات البيئية.
وأكد أن مسؤولية الدول اليوم لا تقتصر على إطلاق الالتزامات أو توقيع الاتفاقات، بل تمتد إلى تحويل هذه التعهدات إلى سياسات عملية واستثمارات حقيقية في البحث العلمي، والطاقة النظيفة، وبناء القدرات، ونقل المعرفة، فالقضية لم تعد تخص دولة بعينها، بل مستقبل البشرية جمعاء، والقطب الجنوبي يذكّرنا بأن أي خلل في أقصى الأرض سينعكس عاجلاً أم آجلاً على الجميع.
وعدّ الخطاب البيئي، مهما كان مؤثراً، يظل محدود الجدوى إذا لم يتحول إلى ممارسات عملية، فالتغيير الحقيقي يبدأ من القناعة الشخصية، وينعكس في السلوك اليومي، ثم يمتد إلى السياسات والمؤسسات، في مسار تراكمي يصنع فرقاً حقيقياً ومستداماً.
القطب الجنوبي بالأرقام
• 150 ألف زائر سنوياً يصلون إلى القارة القطبية الجنوبية لأغراض البحث العلمي أو السياحة البيئية.
• أقل من 1% فقط يتمكنون من الوصول إلى عمق القارة والمناطق القريبة من القطب الجنوبي الجغرافي.
• Union Glacier تبعد نحو 1000 كيلومتر عن محور الأرض، وتضم مدرجاً جليدياً طبيعياً لهبوط الطائرات الكبيرة.
• درجات الحرارة قد تنخفض إلى 25 درجة مئوية تحت الصفر خلال فترات التخييم والعمل الميداني.
مشهد مؤثر
أفاد المهندس البحري الدكتور حسين خانصاحب بأن «التغير المناخي حقيقة علمية، لكن رؤيته على أرض الواقع تجربة مختلفة تماماً، تزرع شعوراً عميقاً بالمسؤولية تجاه حماية الكوكب، تنبهت إلى ذلك لدى مشاهدتي الكتل الجليدية تنفصل تدريجياً وتذوب في المحيط».
وأكد أن وجود محطة إماراتية دائمة في هذه القارة، ضمن برنامج الإمارات القطبي الذي أُطلق عام 2023، خطوة استراتيجية لترسيخ حضور الدولة في البحث العلمي القطبي، والمساهمة الفاعلة في الجهود الدولية لحماية الكوكب.
وتابع أن وجود الإمارات هناك يحمل رسالة واضحة: التزام بالعلم، والسلام، والتعاون الدولي، وهو التزام ينسجم مع معاهدة القطب الجنوبي، ومع رؤية الإمارات 2050 للحياد الكربوني، ويعكس دور الدولة كونها شريكاً مسؤولاً في مستقبل الكوكب.
• 12 يوماً من التعلم بدعم «دبي القابضة» لتعزيز القيادة والعمل المناخي.
• التفكير الإماراتي في الحضور القطبي يعكس رؤية استراتيجية بعيدة المدى.
• البيئة القطبية تختبر العقل والجسد، وتجربة التخييم درس في الاعتماد على الذات.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news