تدريبهم منزلياً عبر محاكاة الانتظار والتفتيش يخفف المواجهة الأولى داخل المطار
السفر مع ذوي التوحد.. مغامرة «خارج الروتين» محفوفة بالتحديات
في إحدى صالات الانتظار الهادئة بالمطار، تجلس أمّ وهي تشرح لطفلها خطة الرحلة، مستخدمةً صوراً مطبوعة للطائرة والمقاعد وباب الصعود.
يحفظ الطفل تسلسل الصور كما يحفظ تفاصيل الروتين اليومي في بيته: «نذهب إلى المطار.. ننتظر.. نصعد إلى الطائرة.. نجلس.. نصل».
أصبح هذا المشهد أكثر حضوراً في السنوات الأخيرة مع تنامي الوعي حول احتياجات الأطفال ذوي التوحّد أثناء السفر، ومع توسع النقاش حول كيفية جعل تجربة التنقل أكثر سلاسة لهم ولأسرهم.
وعلى الرغم من أن السفر قد يمثل مغامرة ممتعة لمعظم الأطفال، فإنه لدى الأطفال من ذوي التوحد قد يثير سلسلة تحديات حسية وانفعالية، تبدأ بضجيج صالات المطار وصولاً إلى الازدحام المفاجئ وتغير الروتين المعتاد.
ومع ذلك، تظهر تجارب كثيرة أن الإعداد المناسب يمكن أن يجعل الرحلة أكثر قابلية للتوقع، وأكثر راحة ومتعة.
وشدد مسؤولان في مركز دبي للتوحّد على أهمية التخطيط المسبق وتبنّي استراتيجيات مدروسة لجعل تجربة السفر أكثر سلاسة للأطفال من ذوي التوحد وعائلاتهم.
وتفصيلاً، قالت والدة الطفلة ماريا أشكناني، بشرى لاري، إن السفر مع ابنتها البالغة 12 عاماً يشكّل واحداً من أبرز التحديات التي تواجهها، نظراً لاحتياج ابنتها إلى تهيئة مسبقة وروتين واضح يساعدها على تقبّل التغيير.
وأوضحت: «أحرص على إبلاغ ابنتي بخطط السفر قبل موعده بفترة كافية، إذ لا يمكن إخبارها قبل الرحلة بيوم أو يومين فقط، لأن المنزل يمثل لها منطقة الأمان والراحة، والخروج منه، حتى لو لفترة قصيرة، يسبّب لها توتراً وقلقاً يتطلبان استعداداً نفسياً مسبقاً».
وأضافت أن من أهم متطلبات السفر مع ابنتها وضع مخطط يومي تفصيلي يشمل الأنشطة منذ بداية اليوم حتى نهايته، والالتزام به قدر الإمكان، مشيرة إلى أن أي تغيير مفاجئ في الجدول قد يؤدي إلى ارتفاع مستوى التوتر لديها وحدوث نوبات بكاء وصراخ، ولذلك تُدرج نقاطاً إضافية في الخطة لتجنّب الانتكاسات عند الحاجة إلى تعديل البرنامج.
وفي ما يتعلق بالطعام، بيّنت والدة ماريا أنها تعتمد على قائمة محدودة جداً من الأطعمة، ما يضطرها إلى حمل وجباتها الخاصة، بما في ذلك بعض السوائل خلال السفر، لافتة إلى أن ابنتها لا تطلب الطعام من تلقاء نفسها، ويجب عرض الوجبات عليها مباشرة كي تتناول ما يناسبها.
وقالت إن الأماكن المزدحمة تسبّب لماريا توتراً واضحاً، ما يدفعها إلى التمسّك بها طوال الوقت، لشعورها معها بالأمان، إضافة إلى رفضها استخدام دورات المياه خارج بيئتها المعتادة، ما يستدعي مرافقتها وتشجيعها على استخدامها.
كما أكدت ضرورة مراقبة ابنتها بشكل دائم خلال الرحلة، خشية ابتعادها أو دخولها أماكن يصعب الوصول إليها، موضحة أن ماريا على الرغم من قدرتها على الكلام، تميل إلى الصمت أثناء السفر، ما يتطلب دعماً إضافياً لمساعدتها على التواصل مع الآخرين.
وترى والدة ماريا أن السفر على الرغم من صعوباته يمنحها وابنتها لحظات جميلة وفرصاً للتقرّب أكثر، مشيرة إلى أنها تتعلم من كل رحلة شيئاً جديداً يساعدها على فهم احتياجاتها بشكل أفضل، ويجعل تجارب السفر المقبلة أكثر سلاسة وراحة.
أما والدة الطفل خليفة الفلاسي، موزة خليفة الهاملي، فقالت إن رحلتها مع ابنها مليئة بالتحديات، خصوصاً خلال السفر، موضحة أن التجربة كانت في بداياتها صعبة وغير واضحة للأسرة، إلا أنهم تمكنوا من تجاوز تلك الصعوبات تدريجياً بفضل التعاون والدعم المستمر.
وأضافت أن مركز دبي للتوحّد قدّم للأسرة مجموعة إرشادات مهمة، كان لها أثر كبير في تحسين تجربة السفر مع خليفة، من أبرزها إعداد جدول واضح للرحلة يتضمن محطات السفر ومواعيدها، الأمر الذي يمنحه شعوراً بالأمان والقدرة على توقّع ما سيحدث لاحقاً.
وأشارت إلى أن تطبيق الإرشادات جعل ابنها يسافر بسهولة وراحة، حيث يتبع الجدول المخصص له بالتزام وثقة، ما حوّل الرحلات إلى تجربة أكثر هدوءاً ومتعة للعائلة.
وقالت: «نشعر بالفخر بما حققناه مع خليفة، وبالامتنان لكل من قدّم لنا الدعم والإرشاد»، لافتة إلى أن «الوعي والتعاون هما أساس النجاح في تمكين أبنائنا واحتواء احتياجاتهم».
بدوره، أكد مدير عام مركز دبي للتوحّد وعضو مجلس إدارته، محمد العمادي، أن دعم الأسر أثناء السفر أصبح جزءاً من مسؤوليات المؤسسات نحو المجتمع.
وأوضح أن «السفر ليس نشاطاً ترفيهياً وحسب، بل هو فرصة تعليمية واجتماعية ينبغي أن تكون متاحة للجميع من دون استثناء».
وقال إن مركز دبي للتوحّد حريص على تعزيز الوعي لدى الأسر والجهات الخدمية لتبني ممارسات داعمة تجعل تجربة السفر أكثر شمولاً وأقل تحدياً من خلال برنامج «البيئة الصديقة لذوي التوحد»، ويأتي ذلك انطلاقاً من رؤية الإمارات وأجندتها الوطنية الهادفة إلى تعزيز جودة الحياة وتمكين أصحاب الهمم، وتماشياً مع أهداف «عام المجتمع 2025».
وأضاف أن «تهيئة بيئات السفر من المطارات إلى الوجهات السياحية هي امتداد طبيعي للجهود الوطنية التي تُعلي من قيمة المشاركة المجتمعية، فكل خطوة تُتخذ نحو تبسيط إجراءات السفر أو تدريب الموظفين أو تخصيص مسارات هادئة، هي خطوة في اتجاه مجتمع يشعر فيه كل فرد بالأمان والانتماء».
ومن الناحية العلمية، شرح المدير التنفيذي للبرامج في المركز والمحلّل السلوكي المعتمد (BCBA-D)، الدكتور نيكولاس أورلاند، أبرز التحديات التي قد تعترض طفل التوحد، إذ «يواجه بيئة حسية جديدة بالكامل تتضمن أصواتاً عالية، وإجراءات أمنية غير مألوفة، وصفوف انتظار طويلة، إلى جانب تغيّر الروتين، والانتقال السريع بين مراحل الرحلة»، موضحاً أن «هذه العوامل قد تؤدي إلى ارتفاع مستويات القلق، وصعوبة التنظيم الحسي، وقد تظهر سلوكيات انفعالية نتيجة التحفيز الزائد».
وأشار إلى أن بعض الأطفال يتأثرون بضوء الصالات القوي، بينما يتوتر آخرون من الروائح أو اللمس غير المتوقع أثناء التفتيش الأمني، مؤكداً أن «الفهم المسبق لهذه المثيرات يساعد الأسرة على بناء خطة دعم واقعية وفعالة».
وأوصى بالاعتماد على «التهيئة المسبقة» التي وصفها بـ«حجر الأساس لأي تجربة سفر ناجحة».
وقال: «من الضروري أن يعرف الطفل ما سيحدث لاسيما من خلال الوسائل البصرية (مثل الجداول المصورة وقصص تسلسل الأحداث) التي تساعده على توقع خطوات الرحلة، فعندما يرى الطفل صورة المطار، بعدها صورة الطائرة، ثم الفندق، يصبح مسار اليوم قابلاً للفهم بدل أن يكون سلسلة مفاجآت مزعجة».
وأكد أن تدريب الطفل منزلياً عبر محاكاة بسيطة للانتظار أو تفتيش الحقائب يساعد في تخفيف المواجهة الأولى داخل المطار، مشيراً إلى أن «التوقع يقلل القلق بنسبة كبيرة ويمنح الطفل شعوراً بالأمان».
ومن الاستعدادات الاحترازية الواجب اتخاذها قبل السفر، أكد أورلاند أهمية إحضار الحقيبة الحسية.
وقال: «لا ينبغي أن تغادر أسرة طفل من ذوي التوحد منزلها دون حقيبة حسية، فهي ليست مجرد مجموعة من الألعاب، بل نظام دعم، إذ تتضمن سماعات كاتمة للضوضاء، وأدوات ضغط، وألعاباً مهدئة، وغيرها من المواد الحسية المألوفة»، موضحاً أن جميع هذه العناصر تساعد الطفل على استعادة التوازن الحسي في أي لحظة يتعرض فيها لمثير زائد، وأضاف أن وجود هذه الأدوات في متناول اليد يمكن أن يغيّر مجرى اللحظة كاملة، خاصة في الطائرة أو أثناء الانتظار الطويل.
كما أشار إلى المعايير التي يعمل عليها مركز دبي للتوحّد في برنامج «البيئة الصديقة لذوي التوحّد»، مبيناً العناصر الأساسية لبيئة سفر مهيّأة، وهي مسارات هادئة قليلة الضوضاء، وإجراءات تسجيل وصعود مبسطة وسريعة، وغرف منخفضة التحفيز في الفنادق، إضافة إلى لوحات إرشادية بصرية واضحة، وموظفين مدربين على التواصل الداعم وفهم السلوكيات الحسية.
وقال: «عندما تكون البيئة مراعية يصبح التوتر أقل والمرونة أكبر، لأن البيئة الداعمة ضرورية لضمان تجربة ناجحة لكل أطراف الرحلة».
يُشار إلى أن التوحُّد يُعد أحد أكثر اضطرابات النمو شيوعاً، ويظهر تحديداً خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، ويصاحب المصاب به طوال مراحل حياته، ويؤثر التوحّد على قدرات الفرد التواصلية والاجتماعية، ما يؤدي إلى عزله عن المحيطين به.
• المنزل يمثل لـ«ماريا» منطقة الأمان والراحة، والخروج منه يسبّب لها توتراً وقلقاً يتطلبان استعداداً نفسياً مسبقاً.
• تجربة السفر كانت جديدة على «خليفة»، إلا أن التعاون والدعم المستمرين ساعداه وأسرته على تخطي الصعوبات.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news