رضيعة ترقد في مركز الثلاسيميا بدبي في انتظار تبرع بالدم. الإمارات اليوم

أطفال الثلاسيـميـــا.. «الضحـــية الكبرى» للأمراض الوراثية فــي الإمـــارات

يوصف مصابو الثلاسيميا وأمراض فقر الدم الوراثية بأنهم «الضحية الكبرى» للأمراض الوراثية في الإمارات وكثير من الدول العربية. فهذا المرض القاتل يسكن جينات كثير من الأسر الإماراتية والعربية، وبسبب زواج الأقارب يظهر في الأبناء، ليحولهم إلى مرضى طوال العمر، يعيشون بأجساد هزيلة، تحتاج إلى تبرعات شهرية من الدم ليبقوا على قيد الحياة.

ولا يوجد إحصاء حكومي دقيق يقدر عدد مرضى الثلاسيميا في الإمارات، لكن معلومات جمعتها «الإمارات اليوم» من هيئة الصحة في دبي ووزارة الصحة، ومستشفى توام في العين، تقدر عددهم نحو 2000 مريض.

ومن يزر مركز «دبي للثلاسيميا» التابع لهيئة الصحة في دبي يرَ مشاهد محزنة لأطفال في عمر ما قبل المدرسة ممدين على أسرّة طبية، تحيطهم أكياس الدم والمحاليل الدوائية، والإبر الطبية لم تترك محلاً في أذرعهم الصغيرة إلا واخترقته.

أطفال ينفطرون بكاءً وألماً من هذا العلاج الذي يفرض عليهم كل ثلاثة أسابيع، وآخرون اعتادوا وخز الإبر، واستسلموا للأمر الواقع، واكتفوا بكتم أحزانهم.

أنابيب الدم

تحقيق: أحمد هاشم عاشور

تواصل «الإمارات اليوم» فتح ملف الأمراض الوراثية، لليوم الثالث.. ناقلة صرخات مصابين بمرض الثلاسيميا الوراثي القاتل، ومحذرة من وجود ما يقرب من 2000 طفل يعانون آلامه في الدولة.

هؤلاء المرضى.. ضحية لآبائهم الذين ورثوا بإهمالهم أو جهلهم، جينات مريضة لأجساد اطفالهم، وحولوهم إلى زوار دائمين للمستشفيات يطلبون تبرعات بالدم تبقيهم على قيد الحياة..

ونرصد عبر هذه الحلقة أمراضاً وراثية نادرة، أحدها يحول الأطفال الى ما يشبه «القطط» ليصدر «مواء» بدلاً من البكاء.. وأمراضاً أخرى مميتة، معدل الإصابة بها في الإمارات هو الأعلى عالمياً.

وللحد من «وباء» الأمراض الوراثية، يطالب مختصون بإصدار تشريعات تلزم بالفحوص الطبية الكاشفة عن أمراض الوراثة في مرحلة عمرية مبكرة، ومعاقبة الآباء المتراخين عن تلك الفحوص.

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

فاطمة، طفلة صغيرة من هؤلاء الذين ابتلوا بمرض الثلاسيميا الوراثي، عمرها خمسة أعوام، كانت تجلس على مقعد طبي مزود بجهاز للألعاب الإلكترونية، تلعب بإحدى يديها، واليد الأخرى محاصرة بأنابيب الدم والدواء. كانت الطفلة تلعب على جهاز الألعاب الإلكترونية، ولا تبدو عليها أي معالم للفرح مثل كل الاطفال أثناء لهوهم، كأنها سجينة تنتظر موعد الإفراج.

والدتها تحدثت لـ«الإمارات اليوم» مبدية حزنها على حال طفلتها التي ستعيش طوال حياتها مهددة بخطر الموت المبكر، فمصابو هذا المرض أعمارهم قصيرة، بسبب مضاعفاته الخطرة التي تصيب أعضاء حيوية في الجسم، وتهدد بتوقف القلب في أي وقت.

عذاب دائم

يقول منسق عام المركز، وأخصائي أمراض الدم الوراثية، الدكتور عصام ضهير، إن مصابي الثلاسيميا يحتاجون إلى نقل الدم منذ العام الاول لولادتهم حتى نهاية العمر، ولا يمكن لهم أن يستغنوا عنه نهائياً بأي علاج، فالمريض إذا لم يحصل على وحدات الدم المقررة له قد يصاب بمضاعفات خطرة، خصوصاً الأطفال الذين قد يصابون بتأخر في النمو، وتراجع في وظائف الكبد والطحال والقلب.

ولفت إلى أن عدد المرضى المسجلين في دبي وحدها بلغ 850 مريضاً، منهم 450 يحتاجون إلى نقل دم بصورة دائمة، في حين يحتاج المتبقون إلى الدم على فترات متباعدة، مشيراً إلى أن المريض الواحد تصل كلفة علاجه إلى 200 ألف درهم سنويا، تبعاً لعمره ووزنه.

وذكر أن بعض الأطفال المرضى لايزالون رضعاً، تبلغ أعمارهم أربعة أشهر فقط، ويخضعون لعمليات نقل دم شهرية، لحمايتهم من مخاطر المرض، داعياً المواطنين والمقيمين إلى الاستمرار في التبرع بالدم على مدار العام، منعاً لأي نقص في وحدات الدم التي يحتاجها المرضى للبقاء على قيد الحياة.

وقال إن المركز يستقبل 30 مريضاً بالثلاسيميا كل يوم، يحتاجون إلى 80 وحدة دم تقريباً، خصوصا من فصيلتي 0 وB.

وشرح أخصائي أمراض الدم الوراثية أن المرضى يصابون بالمرض وراثياً، إذ يحملونه من أبوين حاملين للمرض، منتقداً في الوقت نفسه الآباء الذين يجرون فحوص «قبل الزواج» متأخرين، مشيراً إلى أن كثيراً منهم يتوجهون للفحص بأيام قليلة بعد الانتهاء من استعدادات الزفاف، وإذا ظهر أنهم حاملون للمرض لا تكون أمامهم فرصة للتراجع، وبالتالي يتم الزواج وينجبون أطفالاً مرضى. ويضيف «هؤلاء الآباء يتمتعون بصحة جيدة، ولا يعانون أية أعراض مرضية، لكن بسبب إهمالهم يتسببون في إنجاب أطفال يعيشون طول العمر في عذاب مستمر».

60 مرضاً وراثياً

وإلى جانب الثلاسيميا، تتزايد في الإمارات الحالات المكتشفة من إصابات الامراض الوراثية «الاستقلابية»، التي تصيب الطفل بإعاقة ذهنية أو حركية، ويصل الأمر إلى الموت.

وكشفت الاستاذ المساعد بقسم الأطفال بكلية الطب والعلوم الصحية في جامعة الإمارات، الدكتورة فاطمة الجسمي، أن دراسة حديثة أجرتها الجامعة، ونشرت في مجلة علمية عالمية، انتهت إلى أن الإمارات تعد الأعلى في العالم في 60 مرضاً وراثياً.

وأوضحت أن هذه الأمراض تسمى «أمراض التخزين اليسوسومية»، وهي أمراض مزمنة، تصيب المريض بتدهور مستمر في صحته، وتصيب الطفل بتخلف عقلي، وإعاقة حركية، ويصل الامر إلى الموت المبكر. ومن بين تلك الأمراض التي رصدتها الدراسة، أمراض تصيب القلب، والرئة، والعظام، والكلى، والعيون، وتسبب الصمم، لافتة إلى أن 70% من تلك الأمراض المنتشرة في الإمارات تصيب بخلل في وظائف الدماغ.

وأشارت إلى أن متوسط نسبة انتشار هذه الأمراض في العالم يراوح بين 10 و15 حالة في كل 100 ألف مولود، في حين أنها تصل في الإمارات إلى 28.6 مريضاً في كل 100 ألف مولود.

ونبهت الجسمي، وهي مدير مركز الأمراض الوراثية الاستقلابية في مستشفى توام في مدينة العين، إلى أن كثيراً من الامراض الوراثية يصعب تشخيصها من قبل الأطباء المتخصصين في مجالات تختلف عن طب الوراثة، داعية الأطباء الذين يستقبلون مرضى مصابين بأمراض يصعب تشخيصها إلى إحالتهم إلى أطباء متخصصين في الوراثة، للاسراع في تشخيصها والبدء في علاجها المبكر.

وسائل الوقاية

لكن كيف يتم تفادي الإصابة بالأمراض الوراثية المزمنة والقاتلة؟

تجيب على التساؤل، مؤسس ورئيسة مجلس ادارة جمعية الإمارات للامراض الجينية، الدكتورة مريم مطر: قبل سنوات قليلة، لم تكن هناك وسائل للوقاية من الأمراض الوراثية، لكن الآن تتعدد الطرق التي تحمينا من إنجاب أطفال مرضى.

من بين هذه الوسائل رسم «شجرة العائلة»، وهو إجراء مهم لمعرفة الأمراض التي ظهرت في الأقارب، ما يساعد أطباء الوراثة على توقع الأمراض التي يمكن أن يصاب بها المواليد، وبالتالي نصيحة المقبلين على الزواج بإعادة النظر في إتمام زواجهم، منعاً لإنجاب أطفال مرضى، وأيضاً يمكن اجراؤها للمتزوجين، لتحديد إمكانية إنجابهم أطفالاً مصابين بمرض وراثي.

وتكمل «يمكن للمتزوجين أن يتجهوا إلى عملية فحص البويضات قبل الغرس، وتجرى هذه العملية في أول ثلاثة أيام من الاخصاب في مراكز الاخصاب الحكومية والخاصة في الدولة، بإجراء تلقيح خارجي للبويضة، ثم يتم فحص البويضات لاستبعاد المصاب منها، وإعادة البويضة المخصبة الخالية من المرض إلى الرحم، ما يجنب الاسرة انجاب اطفال مرضى»، مشيرة إلى أن هذا الإجراء الطبي يقلل خطر إنجاب طفل مريض بنسبة 99.9% من المرض المفحوص.

وشددت مطر على ضرورة الالتزام بإجراء فحوص ما بعد الولادة، وهي فحوص تتم بسحب عينة من كعب قدم المولود، لاكتشاف الامراض الوراثية. وقالت إن إجراء هذه الفحوص يساعد على اكتشاف المرض مبكراً، وتقديم العلاج اللازم له، ما يحميه من تلف الدماغ، والوقاية من أمراض تصيب بإعاقات ومخاطر تتعلق بالقلب والكلى.

وقالت مطر «أرجو من وزارة الصحة أن تزيد الموازنة المالية المخصصة لعمليات المسح الوقائي وحملات التوعية بمخاطر الامراض الوراثية، بما يعادل نسبة الشباب في الدولة».

وأضافت أن «60% من أبناء المجتمع الإماراتي في مرحلة الشباب أقل من 30 عاماً، لذلك لابد من تخصيص ما لا يقل عن 60% من الموازنة لتوعيتهم، ما يقي المجتمع تزايد الإصابات بالأمراض الوراثية في الأجيال الجديدة».

وأكدت ضرورة تحديث فحوص ما قبل الزواج، إذ إنها تقتصر على فحص مرض الثلاسيميا وأمراض الدم، ولابد أن تتم إضافة فحوص أمراض وراثية أخرى بناءً على التاريخ الطبي للمتقدمين إلى هذه الفحوص، مشيرة إلى أنها فحوص بسيطة، ويمكن إجراؤها بالأجهزة المتوافرة حالياً في الدولة.

وتدعو مطر إلى إصدار تشريعات جديدة تلزم بكل الفحوص التي تحمي من الأمراض الوراثية، وتعطي الجهات الحكومية حق محاسبة من يهملون في إجراء هذه الفحوص، كونهم يتسببون في إنجاب مرضى يعيشون حياتهم في ألم مستمر.

الأكثر مشاركة