«الإهمال والتفكك» بوابة الأطفال إلى عالم الجريمة

حذر اختصاصيون اجتماعيون وقانونيون من التفكك الأسري وخطورته على الأطفال، موضحين أن المشكلات الأسرية تؤدي إلى انشغال الآباء والأمهات عن متابعة أطفالهم، وعدم زرع القيم والتقاليد الحميدة في نفوسهم.

وأشاروا إلى أن تراجع دور الأسرة في تنشئة الأطفال يفسح المجال أمام أصدقاء السوء للسيطرة على الأطفال، وكذلك يزيد من مساحة الدور الذي يلعبه الفضاء الإلكتروني في حياة الأطفال والمراهقين، والسيطرة على عقولهم بأفكار غريبة أو شاذة أحياناً، ما يترتب عليه زيادة الجرائم والمخالفات السلوكية التي يرتكبها الصغار، مشيرين إلى أن الأطفال المتورطين في ارتكاب مخالفات قانونية، غالباً ما ينحدرون من أسر مفككة، إما بطلاق الأبوين أو باشتعال الصراعات بينهما طوال الوقت، وانصراف كل منهما عن رعاية ومتابعة أبنائهما، وأضافوا أنه مع تراجع دور الأسرة في السنوات الأخيرة، مقابل اتساع مساحة الدور الذي يلعبه الفضاء الإلكتروني في حياة أفرادها، في زيادة معدل الجرائم والمخالفات السلوكية التي يرتكبها الصغار، شهدت قاعات المحاكم زيادة في عدد القضايا التي أبطالها أطفال ومراهقون، وسواء كانوا جناة أو مجنياً عليهم هم في النهاية ضحايا سوء التنشئة.

وأوضحوا أن الأسرة هي عماد المجتمع وتشكل الخلية الأولى في بنائه، ومن خلالها تتحقق القيم الاجتماعية، وتشكّل حائط الصد الأول والأقوى ضد المشكلات النفسية والأخلاقية، عبر غرس القيم الحميدة والفضائل الخلقية والمعرفة، والعادات والتقاليد الحسنة في نفوس أفرادها، خصوصاً الأطفال، لذا ينحدر الأطفال المتورطون في ارتكاب الجرائم، في الغالب، من أسر مفككة إما بطلاق الأبوين أو باشتعال الصراعات بينهما طوال الوقت، وانصراف كل منهما عن رعاية ومتابعة أبنائهما.

وتفصيلاً، كشفت قضايا منظورة أمام المحاكم، وأحكام قضائية أوردتها دائرة القضاء في أبوظبي، ضمن إصداراتها «قصص وعبر من واقع محاكم أبوظبي»، عن وقوع كثير من الأطفال في فخ الجريمة نتيجة إهمال الأسر وتفككها أو طلاق الأبوين.

وأيدت محكمة النقض في أبوظبي، أخيراً، حكماً لمحكمة الاستئناف، قضى بإلزام أبوين لقاصرين بأن يؤديا لوالد صبي مبلغ 300 ألف درهم تعويضاً مادياً وأدبياً، بعدما صدر بحق الأبوين حكم جزائي دان القاصرين بهتك عرض الصبي بالإكراه، والاعتداء على خصوصيته بنشر وإعادة نشر مقطع فيديو لواقعة هتك العرض.

فيما أدى شجار بين طفلين في الصف الثاني، على حيازة قلم رصاص، إلى إصابة طالب كان جالساً خلفهما، حيث دخل القلم في عينه اليمنى، ما أدى إلى حدوث إصابة بالغة ومباشرة في العين اليمنى، مع وجود نزيف دموي حاد، وتم نقله بسيارة الإسعاف إلى مستشفى، وإجراء عملية له.

وأوردت دائرة القضاء في أبوظبي قضية ثالثة، أبلغ سائق سيارة أجرة عن قيام طفلين لم يتعديا سن 15 عاماً بإعطائه ورقة مالية فئة 200 درهم مزيفة مقابل توصيلهما، فخصم أجرته التي بلغت 30 درهماً، وأعاد لهما 170 درهماً حقيقية، ونجحت الشرطة في العثور على الطفلين وأقرّا أمام جهات التحقيق بأنهما عثرا على صورة لأوراق نقدية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وقاما من باب التسلية بتنزيلها على أجهزتهما، ثم عملا على تجهيزها على جهاز كمبيوتر، وفق قياس الورقة النقدية الحقيقية لكل قيمة، وقاما بتجربة طباعة ورقة فئة 200 درهم وكانت جيدة.

وفي يوم الواقعة كانا يرغبان في التوجه إلى أحد المراكز التجارية، ولم يكن لديهما مال لذلك، فاقترح أحدهما استخدام الورقة المزيفة فئة الـ200 درهم، واستحسن الآخر الفكرة، وبالفعل ركبا سيارة الأجرة واستخدما الورقة المزيفة في دفع الأجرة، معتقدين أن ذلك من قبيل المقلب المضحك، فتمت إحالتهما إلى الجهات المختصة لمباشرة التحقيقات معهما.

وفي قضية أخرى أوردتها دائرة قضاء أبوظبي، تعرضت طفلة (خليجية) تبلغ من العمر أربع سنوات، لهتك عرض بالإكراه من قبل ابن خالتها البالغ من العمر 15 عاماً، خلال إقامتها في منزلهم خلال وجود أمها في المستشفى لولادة شقيقها.

وتم اكتشاف الجريمة عقب عودة الطفلة إلى منزلها وشعورها الدائم بالرعب والتبول اللاإرادي، ورفض الذهاب للنوم في غرفتها، والإصرار على النوم في غرفة والديها، ما دفع الأب والأم في البداية إلى لاعتقاد بأنه ناتج عن غيرتها من شقيقها المولود، وخوفها من أن يستحوذ على حبهما، إلا أن الاهتمام الزائد بها لم يفلح في تحسين حالتها.

وبتكرار سؤال الطفلة عما أصابها أخبرتهما بأنها تخاف أن يقتلهما ابن خالتها المراهق «كما أوهمها»، وطلبت منهما أن يطلبا منه أن يتوقف عما يفعله معها لأنه يؤلمها جداً، وأخبرتهما بما يفعله معها، وقامت بوصف ما يفعله معها بألفاظ صريحة وخادشه للحياء لا تتناسب مع عمرها، مشيرة إلى أن ابن خالتها هو من أخبرها بهذه الألفاظ، وطلب منها تكرارها على مسامعه.

وتوجّه الأب إلى الجهات المختصة، وقدّم بلاغاً بتعرض طفلته لهتك العرض بالإكراه، فيما اعترف المتهم أمام النيابة باستغلاله وجود ابنة خالته معه في المنزل، مشيراً إلى أنه كان يدمن مشاهدة الأفلام الإباحية مع أصدقائه وحاول تطبيق ما يشاهده على ابنة خالته، وبناء على اعترافات المتهم قررت نيابة الأسرة والطفل إيداعه مركز رعاية الأحداث وتحويل القضية إلى محكمة الجنايات، فيما أحيلت الطفلة المجني عليها للعلاج النفسي، حيث قررت الطبيبة المعالجة أن صغر سِن الضحية وعدم إدراكها الكامل لأبعاد الواقعة، سيساعدان في الشفاء.

إلى ذلك أكد الاختصاصيون الاجتماعيون، رجب حامد، وفاطمة حسن، ونسمة سليمان، أن التفكك الأسرى أحد أهم أسباب انحراف الأطفال لعدم وجود رقيب على سلوكياتهم، حيث يلعب المنزل دوراً كبير في خلق السلوك القويم وتشكيله لدى الأطفال، مشيرين إلى أن المدرسة أيضاً، متمثلة في معلمات رياض الأطفال والحلقة الأولى، لها دور مهم ومكمل لدور الأسرة في تنشئة الأطفال، وغرس القيم الأخلاقية والسلوك الحسن في نفوسهم.

وأوضحوا أن المعلمة في هذه المرحلة تعد بمثابة أم ثانية للأطفال ويمكنها تهذيب أخلاقهم، كما يلعب المعلمون دور المرشد والقدوة في حياة الطلبة في سن المراهقة، لذا يجب التأكيد دائماً على قيمة المعلم المجتمعية حتى يتخذه الطلبة قدوة لهم.

وأكدوا أن الأطفال يكتسبون سلوكياتهم من التربية، حيث يميلون منذ الصغر إلى تقليد ما يرونه أمامهم، وفي حال كانت الأسرة مفككة أو لا تعطي الاهتمام الكافي لأبنائها يتجه الطفل إلى تقليد ما يشاهده، سواء في التلفزيون أو الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى لجوئه إلى رفقاء السوء في سن المراهقة ومحاولة لفت النظر وإثبات وجوده عبر ارتكاب المخالفات والجرائم.

من جانبه، أفاد أستاذ الثقافة والمجتمع بالجامعة الكندية في دبي، الدكتور سيف راشد الجابري، بأن ظاهرة العنف والتنمر عند الأبناء باتت واحدة من أكثر الظواهر قلقاً للمجتمع، ما دفع علماء النفس إلى تكرار التنبيه والتحذير من هذا السلوك المضاد للمجتمعات، الذي يعني الاصطدام بالعادات والتقاليد والقوانين الاجتماعية، مع عدم التوافق مع الآخرين ووصف مرتكبيه بـ«الشخصية السيكوباتية» التي تمارس أفعالاً مضادة للمجتمع وأفراده.

وقال الجابري: «أهم أسباب زيادة ظاهرة التنمر والعنف لدى الأطفال والمراهقين في المجتمع، يعود إلى وسائل التواصل الإلكتروني والمواقع الإلكترونية، التي تبث من خلال الألعاب الخيالية والمسلسلات كل أشكال العنف، كونها قادمة من بيئة غير البيئة الأصيلة (البيئة العربية) ما يدفع الأبناء لمحاولة التقليد»، لافتاً إلى أن هذه الوسائل أكثر مستخدميها من الأطفال والشباب الذين يقضون ساعات طويلة على الإنترنت، ما يجعلهم يبادلون الحديث مع أشخاص قد لا يعرفونهم، ما يؤدي إلى وقوع العديد منهم في شراك الاستغلال والابتزاز الإلكتروني، وما يترتب على ذلك من عواقب نفسية واجتماعية خطرة، إضافة إلى الكثير من الأساليب التي تشكل التنمر.

وأضاف: «يعد السبب الآخر والمهم للسلوك الإجرامي لبعض الصغار في الدول المستقرة والتي شهدت نزوحاً، مثل دول مجلس التعاون، هي تلك الأحداث من النزاعات والحروب، التي سبّبت صدمة نفسية للأبناء القادمين من هذه المناطق، كون أغلبهم يعاني حالات نفسية لا تصل إلى الحالة المرضية لكن تظل ظاهرة مقلقة كونها تسبب ردة فعل تجاه المجتمع، وتنتقل للآخرين كون الأبناء الأكثر سرعة في التقليد».

وأكد الجابري أن المسؤولين عن معالجة هذه الظاهرة الأسرة والمدرسة والمجتمع، مشدداً على أن القوانين والإجراءات المتخذة في دولة الإمارات تُعد من أكثر النظم مثالية، وحققت كثيراً من النتائج الإيجابية التي أصبحت قدوة للآخرين.

من جانبه، أكد عضو جمعية المحامين الإماراتيين، المستشار القانوني سالم سعيد الحيقي، أن السلوك الانحراف لدى الأطفال غالباً ما يكون بسبب التربية والبيئة المحيطة، خصوصاً الواقع الافتراضي الذي يعيشه أغلب الأطفال في الوقت الراهن عبر استخدامهم الفضاء المفتوح وانخراطهم الدائم في الألعاب الإلكترونية العنيفة، ما قد يتسبب في تأثر أطفال بها، وإقدامهم على ارتكاب الجرائم لقلة الارتباط بالأسرة وابتعاد الآباء عنهم.

وقال إن من أهم الأسباب المؤثرة في سلوك الأطفال، التفكك الأسري الذي يُعد أحد أهم أسباب هذا السلوك نظراً إلى عدم وجود رقيب على سلوك الطفل، كما يبرز في الوقت الراهن بعض مسلسلات الكرتون الأجنبية، ومشاهير التواصل الاجتماعي، الذين قد يقومون بالتلفظ بألفاظ السباب والكلمات غير الأخلاقية، أو يقومون بالتحريض على العنف بشكل مباشر أو غير مباشر في رسائل موجهة للأطفال بسبب حداثة سنهم، وتحريض الأطفال على ارتكاب الجرائم.

عقوبة الحدث الجانح

أفاد عضو جمعية المحامين الإماراتيين، المحامي سالم سعيد الحيقي، بأن القانون الإماراتي ينصّ على أنه يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة كل من أعدّ حدثًا لارتكاب جريمة، أو القيام بعمل من الأعمال المجهزة أو المسهلة أو المتممة لارتكابها، أو حرّضه عليها ولو لم يرتكبها الحدث فعلاً، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر إذا استعمل الجاني مع الحدث وسائل إكراه أو تهديد، أو كان من أصوله أو من المتولين تربيته أو ملاحظته، أو كان الحدث مُسلّماً إليه طبقاً للقانون.

وأشار الحيقي إلى أن الطفل الحدث هو من لم يجاوز الـ18 من عمره وقت ارتكابه الفعل محل المساءلة، أو وجوده في إحدى حالات التشرد، مشيراً إلى أنه لا تقام الدعوى الجزائية على الحدث الجانح الذي لم يبلغ من العمر سبع سنين كاملة، ومع ذلك يجوز لجهات التحقيق والمحاكم أن تأمر في جميع الأحوال باتخاذ الإجراءات التربوية أو العلاجية المناسبة لحالة هذا الحدث إذا رأت ضرورة لذلك.

• اختصاصيون: تراجُع دور الأسرة مقابل الدور الذي يلعبه الفضاء الإلكتروني في حياة الأطفال، يسهم في زيادة الجرائم والمخالفات السلوكية.

الأكثر مشاركة