فقهاء يرَوْن فيه «مفاسد جمّة».. وقانونيون يعتبرونه «بيّنةً محايدة»
أسباب فقهية تمنع اعتماد «دي.إن.إيه» لنفي النسب
يثير إمكان الاستعانة بتقنية الحمض النووي أو ما يعرف باسم «الشيفرة الوراثية» (دي إن إيه) في قضايا نفي النسب في محاكم الدولة، جدلا بين فقهاء يرفضونها لأسباب دينية، ويرون فيها «تشكيكا في الأنساب، تترتب عليه مفاسد جمة»، باعتبار أن «الشريعة الإسلامية تحرص على حفظ الأنساب ما أمكن، ولو احتمالا»، وبين قانونيين يرون ضرورة الأخذ بالفحص دليلا على النسب، معتبرين أنه «بيّنة يقينية محايدة، صالحة لنفي النسب أو تأكيده». ولفتوا إلى أن توافق نتيجة «دي إن إيه» مع حالات نفي النسب، يعني بالضرورة عدم حصول الجماع، الذي هو الشرط الأساسي للقاعدة الشرعية والقانونية «الولد للفراش».
والحمض النووي هو جزيء مخزون المعلومات الوراثية، ويسمى ترتيبها «الشيفرة الوراثية» التي تميز الكائنات الحية عن بعضها بعضا.
وتفصيلا، طالب عضو المجلس الوطني الاتحادي محمد الزعابي بـ«تعديل قانون الأحوال الشخصية في ما يتعلق بالنسب، والأخذ وجوبياً بالتقنيات العلمية دليلا لنفي النسب أو إثباته». مشيرا إلى أن «العلم تقدم ولا مجال للشك في نتيجة تلك التقنية أبداً».
ولاحظ الزعابي «تناقضاً كبيراً» في التطبيقات القضائية، «إذ إنها تأخذ بالحمض النووي دليلا قطعيا في القضايا الجنائية، كالقتل وما شابه، فيما تعتبره مجرد قرينة في القضايا الشرعية المتعلقة بنفي النسب».
وتابع: «في الوقت نفسه تأخذ به في إثبات النسب، وتبتعد عن نتيجته في نفي النسب».
وتساءل الزعابي: «كيف يؤخذ بنتيجة فحص الحمض النووي في إثبات نسب طفل جاء نتيجة علاقة خارج إطار الزواج، ولا تثبته في قضايا نفي نسب طفل بين زوجين، على الرغم من أن الحالة الأخيرة تدخل فيها تبعات كثيرة، مثل الإرث، وتربية طفل غريب عن الأب، والخيانة الزوجية، واختلاط الأنساب».
وقال: «ما دام قد أخذ به دليلا لإثبات النسب، فمن باب أولى الأخذ به دليلا لنفي النسب، فلا يمكن التلاعب بالأنساب».
ورأى أن «حجة الداعمين لوجهة النظر الشرعية، التي تقوم على الابتعاد عن فحص الحمض النووي، حفاظاً على كيان الأسرة، ليست مسوغة». مؤكدا أن الاسلام حافظ على الأسرة في إطارها الشرعي.
وقال مدير إدارة الإفتاء في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي، الدكتور أحمد بن عبدالعزيز الحداد، إن ما يجرى في المحاكم هو الرأي الشرعي الثابت لدى علماء الإسلام، المؤيد بصريح الأدلة النقلية والقواعد الفقهية، فلا يعدل عنها إلى غيرها من أدلة علمية مخبرية أو أدلة ظنية، ودلل على رأيه بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، فأثبت النسب لصاحب الفراش مع أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يرى شبهاً بيّناً بالزاني، وكلامه (صلى الله عليه وسلم) مؤيد بالوحي، فهو لا ينطق عن الهوى، وهو أقوى من «دي. إن. إيه» المستجد علميا اليوم، معتبراً أنه «بذلك يقطع طرف الطعن في الأنساب والتشكيك فيها». ورأى أن «التشكيك في الأنساب تترتب عليه مفاسد جمة، نفسية واجتماعية. ولو فتح هذا الباب لاتسع الخرق وحدثت الفتن، ويكفي المرأة جرما وعقابا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال حين أنزلت آية الملاعنة «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته».
وقال إن الشريعة الإسلامية تحرص على حفظ الأنساب ما أمكن، وتبني أحكامها على الظاهر من غير التفتيش عن بواطن الأمور.
نسب طفلة لاتزال فصول دعوى نفي نسب طفلة قائمة في محكمة الشارقة، منذ ،2009 عندما رفع المدعي (أ.ح) إماراتي، دعوى ضدّ طليقته (ش. إ) لا تحمل أوراقا ثبوتية، التي تركت منزل الزوجية في نوفمبر ،2008 وفي ديسمبر راجعت المدعى عليها المستشفى وحصلت على تقرير طبي يفيد بعدم وجود حمل. وقد طلقها طلاقاً رجعياً في ابريل ،2009 وبعد مرور شهرين أقامت المدعى عليها ضدّه شكوى تطالبه فيها بنفقة حمل، بناء على تقرير طبي حصلت عليه في يونيو 2009 يفيد بأنها حامل، وبأن مدة الحمل 20 أسبوعاً، أي ستة أشهر، ما مفاده أن بداية الحمل في يناير ،2009 ثم وضعت مولودتها الأنثى في أكتوبر ،2009 وقررت المحكمة إحالة الطفلة الى المختبر، وتبيّن من نتيجة فحوص الـ«دي.إن.إيه» أن المدعي ليس هو الأب البيولوجي للطفلة، وعليه ينتفي نسبه لها، وأن المدعى عليها هي الأم البيولوجية للطفلة. وأخذت محكمة أول درجة برئاسة القاضي حسين العسوفي نتيجة تقرير المختبر الجنائي كقرينة قوية على نفي النسب، وحكمت بنفي النسب بعدما قدم المدعي اللعان الذي يثبت موقفه، وخلصت إلى أن البصمة الوراثية يجوز الاعتماد عليها في نفي النسب ما دامت نتيجتها قطعية، كون التقنية تلك تحقق مقصود الشرع في حفظ الأنساب من الضياع. لكن محكمة الاستئناف التي ترأسها القاضي علي الرضوان ألغت الحكم الابتدائي، وقضت بإثبات نسب الطفلة للمدعي، كون المدعى عليها أنجبت الطفلة حال قيام الزوجية الصحيحة، ونسبها يكون قد ثُبت بالفراش. |
ولفت الحداد إلى أنه «مع ذلك فقد أعطى المشرّع صاحب الفراش الحقّ في نفي النسب عنه إذا كان متأكدا من عدم نسبته إليه، وذلك باللعان أمام القاضي بشرط ألا يكون قد أقر بنسبته إليه سابقا ولو ضمنا، وبذلك يكون قد حفظ حقوق الأطراف كلها، فلا حاجة إلى هذه التقنية في هذا الباب قطعا». يشار إلى أن «اللعان» هو عبارة عن شهادات مؤكدات بأيمان من زوجين مقرونة بلعن أو غضب، ويقام في دعاوى نفي النسب.
ورأى الحداد أنه «لو كانت المرأة متأكدة من نفسها وبراءتها وطهرها، وكان زوجها يشك في نسب الطفل لشبهه المغاير، أو نحو ذلك من الشكوك، فمن حقها أن تقطع الشك باليقين وتطلب تبرئة نفسها بهذه التقنية (دي. إن. ايه) ليطمئن قلب أبيه، ويعلم أن ما حدث من تغاير الشكل هو من خلق الله تعالى، أو لعله نزعة عرق لأحد أصوله أو أخواله، وهذا من عدالة الإسلام وصيانته للحقوق وحفظ الأنساب». مضيفاً أن «تقنية (دي. ان. ايه) تنفع في الأدلة الجنائية أو عند اشتباه النسب في الحوادث ونحوها، فتكون قرينة يركن إليها، وقد اعتمدت الشريعة على القرائن في أحوال هذه منها».
غير أن المحامي هارون تهلك رأى أنه لا يصح عدم اعتماد نتيجة فحص الحمض النووي في حال لجوء زوج إليه إثر رفع دعوى نفي النسب، بحجة أن العلاقة الزوجية مازالت مستمرة، تأسيساً على المادة (90/1) من قانون الأحوال الشخصية الاتحادي التي تنص على أن «الولد للفراش إذا مضى على عقد الزواج الصحيح أقلّ من مدّة الحمل، ولم يثبت عدم إمكان التلاقي بين الزوجين» أو المادة (90/4) «إذا ثُبت النسب شرعا، فلا تُسمع الدعوى بنفيه».
واعتبر تهلك أن الزوج يتقدم بدعوى كهذه في القول بأن ذلك الحمل أو المولود ليس منه إلا لسبب قوي، وهو إما لكونه لم يعاشر زوجته لسفره أو سفرها أو نشوزها أو زناها أو غيرها من الأسباب، متابعاً أنه عادة ما يكون الرجل حريصا على ألا يُلطّخ ويلحق العار بشرفه وعرضه، وهو أعلم الناس بأسرار فراشه وبيته، ولأن من يطلب اللجوء إلى الـ«دي. ان. ايه»، وإن كان في صورة دعوى نفي النسب، فهو في حقيقة الأمر يشكك في معاشرته لزوجته والتي نتج عنها ذلك الحمل أو المولود.
ورأى تهلك أن نتيجة فحص الـ(دي.ان.ايه) هي بيّنةً يقينية محايدة صالحة لإثبات النسب أو نفيه، معتبرا أن ذلك لا يتعارض مع نصوص القانون، والتي هي المادة (97/5): «للمحكمة الاستعانة بالطرق العلمية لنفي النسب بشرط ألا يكون قد تم ثبوته قبل ذلك». وشرح أن مجيء نتيجة الـ«دي.ان.ايه» متوافقة مع نفي النسب، يعني بالضرورة عدم حصول الجماع الذي هو الشرط الأساسي للقاعدة الشرعية والقانونية «الولد للفراش».
ومن المعلوم طباً وواقعاً، يتابع تهلك، أن بيّنة «دي ان ايه» راجحة، لا تقبل شكاً في تأكيد ثبوت النسب أو نفيه، ولا تقبل إثبات العكس، وكل البيّنات أمامها مرجحة حتى بيّنة فراش الزوجية، لكونها تقبل إثبات العكس. وبحسب تهلك، فإنه «ما يؤكد صحة ذلك أن الفقهاء أنفسهم أوجبوا على الرجل أن ينفي النسب متى يقوى شكّه، وذكروا حالات عدّة يصح النفي معها ولو كان فراش الزوجية مستمراً. ذكر القاضي خالد الحوسني، من محكمة الأحوال الشخصية في دبي، أن فحص الحمض النووي «دي.ان.ايه» في قضايا نفي النسب هو قرينة وليس دليلا.
وأضاف: «لو أصبح دليلا فسيكون ذريعة لضعفاء النفوس، بفتح الباب لكل من يشك في نسب طفله أن يرفع دعوى نفي نسب».
وذكر أن المادة (89) الخاصة بثبوت النسب، تنص على أنه يثبت النسب بالفراش، أو بالإقرار، أو بالبيّنة، أو بالطرق العلمية إذا ثبت الفراش، شارحاً أنه لا ينفى الطفل إذا أقر به الزوج سابقاً، وإن ثبت بالفحص الطبي أنه ليس الأب البيولوجي.
وضرب الحوسني مثالا على ذلك، بأن زوجين انجبا طفلا وسماه الزوج باسمه، ومرت السنوات ولم ينجب أبناء آخرين، ثم شك في الأمر، فخضع لتحليل فحص «دي. إن. ايه»، وبعدما أثبت الفحص أن الطفل ليس ابنه وأنه عقيم، قرر رفع دعوى لنفي نسب الطفل، فإنه في تلك الحالة لا يُنفى النسب عنه، ويتم تثبيته أنه ابن الفراش، بسبب أنه أقرّ بنسبه للطفل سابقاً. وعزا الحوسني ذلك إلى محافظة القانون على تماسك الأسرة، واستقرار أفراد المجتمع، مؤكدا أن هذا الرأي مستمد من الشريعة الإسلامية، ولكنه أوضح أنه في حال معينة، يؤخذ بنفي النسب، وإن كان الحمل وقع أثناء قيام الزوجية، وذلك شرط ألا يبدي اعتراضه بعد مرور سبعة أيام على علمه بالولادة، وهي الفترة التي حددها القانون له.
وشرح أنه إذا أنجبت الزوجة طفلاً، وزوجها عقيم أو سجين أو مسافر، وهو يعرف أنه لم يجامعها، فله الحق في نفي النسب، خلال سبعة أيام من علمه بالولادة. وقال إن تأخر الزوج عن سبعة أيام، يدخله في إطار الإهمال، وإهمال أي رجل يعني قبوله بنسب الطفل له، لافتاً إلى أن أي شخص أنجبت زوجته طفلاً وهو على علم بأنه ليس ابنه، فلن يصمت، لأن الأمر لا يقبل التأخير بسبب ما يترتب عليه من اختلاط الأنساب والميراث والنفقة، وفي حال تأخر عن رفع الدعوى، فلن يؤخذ بها، حتى إن أكد الفحص الطبي أنه ليس أباه بيولوجياً.
إلى ذلك، ذكر استاذ الشريعة والقانون في جامعة الشارقة الدكتور عبدالحق حميش أنه لا يجوز الاعتماد على تحاليل الحمض النووي في نفي النسب، إلا في حال الأشخاص مجهولي النسب، أو إذا أقيمت الملاعنة من الزوجة، فأرادت تبرئة نفسها بالتحليل الطبي الذي إما أن يثبت أو ينفي النسب.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news