ردّ الاعتبار للتأميم

 

بالتوازي مع حركة التصحيح والمراجعة الجذرية في الميزانيات وأثمان الأصول وأسعار الفائدة ومعدلات النمو وحسابات الأرباح والخسائر التي يعيشها العالم بشرقه وغربه وشماله وجنوبه، والتي أطلقتها الأزمة المالية العالمية، هناك حركة تصحيح أخرى لا تقل أهمية في المفاهيم التي ظلت تحكم النظرية الرأسمالية طوال عقود طويلة من دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها، أو حتى مناقشة مدى صحتها.

 

وبكل تأكيد فإن قضية التأميم تأتي على رأس حركة تصحيح المفاهيم التي فرضتها الأزمة، فحتى وقت قريب كانت كلمة التأميم كلمة سيئة السمعة، وكانت الحكومات التي تلجأ إلى تأميم المرافق الحيوية لديها ولو بصورة جزئية توضع في القوائم السوداء، لأن العصر عصر العولمة ولا صوت يعلو على صوت الخصخصة، لكن الأزمة المالية أجبرت قلعة الرأسمالية الأميركية على الاعتراف بأن استخدام الأموال العامة لشراء أصول البنوك المنهارة ،هو السبيل الوحيد لإنقاذها، حتى لو كان ذلك معناه التراجع عن كل التعاليم والمقدسات، لأن البديل يعني فتح الطريق أمام رؤوس الأموال الأجنبية للتحكم في دفة الاقتصاد الأميركي، ورغم الأصباغ والمساحيق التي تطلى بها الكلمات، فليس هناك كلمة تصف ما حدث سوى أنه رد اعتبار للتأميم.

 

وما حدث مع التأميم لا يختلف كثيراً عما حدث مع الاندماج الذي كان ينظر إليه على أنه تهمة لكن ما أسفرت عنه الأزمة المالية العالمية أكد أن العالم بحاجة إلى التكتلات الكبرى لأن إطلاق حرية المنافسة بلا ضوابط يعني حالة من الفوضى، وخلق كيانات ضعيفة لا تقوى على مقاومة الأزمات، لذلك لم يكن أمام العالم من حل سوى السماح باندماج البنوك الصغيرة مع البنوك الكبيرة، والقبول بمبدأ التكتلات الكبيرة.

 

وما ينطبق على التأميم والاندماج ينطبق أيضاً على آليات السوق، لكن العالم اكتشف ـ وبفضل الأزمة العالمية ـ أن العرض والطلب وقوى السوق غير كافية لإدارة الأسواق بمفردها، وأن هناك حاجة ملحة إلى إشارات ضوئية تنظم المرور وتضبط حركة السوق وتراقب الخروق، حتى تضمن استقرار الأسواق.

 

ولعل من المفارقات أن قلعة الرأسمالية الأميركية كانت في ظل منظومة المفاهيم الخاطئة، هي الحامي والمنقذ لغيرها من الدول في أوقات الأزمات والاضطرابات، وكان الجميع يتطلعون  إليها عندما يعم الكرب ويشتد البلاء، لكنها اليوم تقف عاجزة تتطلع إلى من ينقذها فلا تجد غير الصين التي تملك ما يقرب من تريلوني دولار من سندات الخزانة الأميركية، وتستطيع بجزء صغير من هذه الثروة الضخمة أن تحل مشكلات أميركا المالية.

 

إن الأزمات المالية حقاً هي خير معلم، ونحن يجب أن نشعر بالامتنان للأزمة المالية العالمية، ليس بسبب الخسائر التي تكبدناها، وإنما بسبب تصحيح المفاهيم وتبديد الأوهام وفتح عيوننا على الحقيقة.
 
 
georgefahim_63@hotmail.com

الأكثر مشاركة