 |
|
كما انه، وفقاً لهيدغر، بات فكر الوجود، الذي على الفيلسوف ان يكون راعيا له، منسياً لمصلحة ميتافيزيك الموجود، ان الفلسفة، وفقاً لدولوز قد ارتهنت منذ البداية الى الحقيقة والى ملازمها، الخطأ، فنسيت عدوّها الحقيقي، الغباء.
ذلك على الرغم من ان العديد من الكبار الفلاسفة قد تناولوها في اعمالهم، او وضعوا مصطلحا خاصا بها، مثل الخرافة عند لوكريس وسبينوزا الجهل والنسيان عند افلاطون، الوهم الداخلي عند كانت ، الارتهان عند هيغل، او الحماقة والابتزال عند شوبنهور.
المنطق المنتج للغباء هو المنطق الفلسفي الكلاسيكي الذي طال كل المظاهر البشرية بحيث اضحى المنهجية الاستنتاجية الاساسية التي يطبّقها الإنسان دون ان يُدركها. المنطق الكلاسيكي هو المنطق الأرسطي ـ الهيغيلي، ايّ المنطق الذي وضعه ارسطو والذي وصل الى ذروته هيغل. هذا المنطق مبني على مبادئ ثلاثة: مبدأ التماثل الذي يتمثّل خاصةً بالعبارة: الواحد هو الواحد، او الواحد يساوي واحدا.
المبدأ الثاني الذي يتفرّع عن الأول هو مبدأ التناقض: الواحد ليس اثنين. المبدأ الثالث يتفرّع عن المبدأين الأوّلين، وهو مبدأ الثالث المستبعد: لا يوجد ايّ حلّ وسطي بين الواحد والاثنين، وبالتالي لا يمكن لأيّ شيء الا ان يكون واحدا او اثنين (فأكثر). المصطلح الذي ابتكره الان روجيه، السبب الكافي، يتكوّن من هذه المبادئ الثلاثة مجتمعة.
منذ ان وضع نيتشه أعماله، باتت الخصوصية المشتركة بين كبار فلاسفة القرن الـ20 على رأسهم هيدغر، هي محاولة تخطّي المنطق الثنائي الكلاسيكسي: «للمنطق شرط لصيق به» وجود حالات متماثلة. في الواقع، امكانية التفكير والاستنتاج المنطقي توجب اعتبار هذا الشرط متوافرا. هذا يعني أن رغبة الوصول الى الحقيقة المنطقية لا تتمّ الا بعد التشويه الراديكالي لكلّ الوقائع، في حين ان ألان روجيه لم يضع ايّ تصوّر لتخطّي مبدأ السبب الكافي، فهو يبيِّن جلياً كيف ان القاسم المشترك للغباء هو الاستعمال الكثيف والمفرط للمنطق الأرسطي. تناول روجيه كلّ مبدأ على حدة ليظهِّر النتائج الملازمة لاستعماله «ان المصير المنطقي لمبدأ الثالث المستبعَد هو السذاجة، ومصير مبدأ التناقض هو الحماقة، ومصير مبدأ التماثل هو الغباء».
مبدأ التماثل
يظهر غباء مبدأ التماثل من خلال القضية البيّنة، او التحصيل الحاصل، وهو تعريف الشيء بنفسه. لكن عبارة «الفلس هو فلس» لا تهدف الى تحديد الفلس، الذي له قيمة مالية معيّنة، بل تهدف، من خلال تكرار الفاعل وتحويله الى نعت، الى حماية نفسها من ايّ تشكيك او رفض، وبالتالي انها تُنشئ ديكتاتورية تمنع كل تحرّر منها. استعمل سان انسيلم وديكارت هذه الديكتاتورية المكتفية بحدّ ذاتها والتي ترتكز على تحويل كلمة «هو» من عطفٍ منطقي الى وجود انتولوجي. كلمة «هو»، التي في الأساس تربط الشيء بصفة معيّنة، كالقول «الإنسان هو حيوان ناطق»، اصبحت اثباتا انتولوجيا يفيد الوجود.
الخلاص عبر المسرح
إذا فشلت الفلسفة في مهمتها «محاربة الغباء»، وإذا انتظر الأدب القرن الـ19 حتى ينقضّ على الغباء لدرجة الهوس، ان المسرح، منذ قرون، ان لم نقل منذ الفيتين، جعل من الغباء موضوعه المختار، عدوّه الخاص، هدفه الأساسي. المسرح في اليونان القديمة كان من الطقوس التطهيرية التي اعاد احياءها بيرتولد بريخت من خلال نظرية المسافة التمييزية بين الممثل والجمهور التي على عكس نظرية التماثل الكلاسيكية بينهما، تسمح لهذا الأخير باتخاذ موقف نقدي حيال ما يشاهد. لكن مشكلة مسرح بريخت الذي اراده ليس أرسطياً، هي تحويل خصائص الكوميديا الى الدراما، في حين ان الكوميديا هي بالأساس استهزاء وسخرية. استهزاء الكوميديا هو اولاً الاستهزاء من الغباء. بعد التأخير الذي اصابه، وبالرغم من ولادته العصرية في القرن الـ17 مع «دون كيشوت» لسرفنتيس الذي تضمّن تظهيرا واضحا للغباء، عمد الأدب على الالتحاق سريعاً بمشروع مواجهة الغباء انطلاقاً من فلوبير الذي يمكن اعتبار اعماله الأدبية الكاملة كبحث انتروبولوجي كبير حول الغباء. بدءاً بإمّا بوفاري التي في رواية «مدام بوفاري» وجدت بين الزوج الكلاسيكي الغبي من ناحية، والعشّاق الأغبياء من جهة اخرى، فغاب شيئاً فشيئاً عنها جدوى تحرّرها، اذ باتت الحياة التقليدية كما الحياة المعاصرة في استحالة مطلقة، ما اودى بها الى الانتحار.
اختيار حتمي
نتيجة لكلّ ذلك، يأتي الاختيار الحتمي، المرسوم مسبقاً، للحبيب، الذي يعتقد من يحبّه انه المختار، في حين ان الاختيار هو قدر غباء الحب، ايّ التولّه الغرامي. كان يمكن للحبيب ان يكون ايّ شخص آخر، لكن الحب وحده ضروري، وحده يمكن الا يكون. تحديد الحبيب متعلّق فقط بالارتهان الاجتماعي، الذي يجمع عادةً حبيبين من الوسط الواحد، ما يضيّق امكانية الاختيار.
اما احترام اولويّة الانتماء (الطائفة، الجنسية، الدين، اللون...) فيجعل من المحبوب غير متميّز. شغف الحب ليس موجوداً الا في الحضارة الغربية الحالية، فهو يغيب عن الحضارة الإغريقية ـ اللاتينية القديمة، كما عن الحضارات الشرقية، وأيضاً عن المجتمعات البدائية.
* تنشر بالتزامن مع صحيفة «السفير» اللبنانية
|
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
Share
فيسبوك
تويتر
لينكدين
Pin Interest
Whats App