درسُ التسامح

 قد لا يروق الحديث عن الريادة والرواد لبعض الكُتاب الشباب الذين يرون في تكرار هذه الأسطوانة محاولة من الأجيال الأدبية السابقة للتشبث بمواقعهم القديمة في خارطة جديدة لم تعد تؤمن بالنجم الأوحد.

لكن النزق الذي يظهر في أحاديث الشباب يتجاوز أحياناً القطيعة مع ما أنتجه الرواد وصولاً إلى إحداث قطيعة غير مبررة مع الرواد أنفسهم، رغم أن التواصل الإنساني بين الأجيال جزء من التواصل الإبداعي، كما أن القطيعة مع النص الأدبي التقليدي لا تشترط مقاطعة صاحبه ولا تتطلب تحويله إلى عدو شخصي
 
وكما يقال فإن الخلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية، لكن الخلاف اليوم أصبح مفسداً للود جالباً للعداوة، ولا يقف الأمر عند الخلاف مع الرواد، بل إن الكتاب الشباب أنفسهم تحولوا إلى جماعات وإلى جزر منعزلة، وأصبحت القضايا الخلافية بينهم مشجباً للتباعد والتناحر حتى على مستوى المنتديات الإلكترونية على شبكة الإنترنت

وقبل أيام كان أحد الأصدقاء يسألني عن كيفية استثمار المواقع الثقافية الالكترونية لإحداث حراك ثقافي قائم على التعدد والإيمان بالآخر بعيداً عن ثقافة الإقصاء والفرز التي تحول الانترنت بسببها إلى مجتمع قبائل.

من النادر أن تجد شاعراً شاباً يستوعب الفصل بين أهمية استيعاب الموروث الشعري العربي من جهة وضرورة تجاوزه من جهة أخرى، وكذلك هو الحال في ما يخص النظر إلى منجز الرواد الأحياء الذين يعيشون بيننا أو الذين رحلوا عن عالمنا قبل سنوات مثل الشاعر الكبير عبدالله البردوني الذي فوجئ الوسط الأدبي في اليمن هذا الأسبوع بنشر إحدى الصحف المحلية لحوار معه لم ينشر من قبل

فعاد البردوني عبر إجاباته الذكية إلى الواجهة، عاد بآرائه ومواقفه السياسية الشجاعة التي لا تنفصل عن إبداعه الشعري المتفرد.

وعندما يذكر البردوني يحضر اسم الدكتور عبدالعزيز المقالح الشاعر والناقد الذي انحازت قصائده ودراساته للمستقبل، فمهَّـد الطريق للأجيال الشعرية التالية، ومهما كان الخلاف حول مصطلح الريادة من الأساس، فإن الأسماء الكبيرة بإبداعها ومواقفها ستظل تمنح الأجيال الشابة دروساً في المثابرة والإخلاص للتجربة الشعرية،

وهذا الدرس يقدمه لنا أدونيس وحجازي والمقالح، ومن قبلهم السياب والبياتي ونازك الملائكة وصلاح عبدالصبور، وغيرهم من الرواد الذين أغنوا مدونة الشعر العربي، بل إنهم شكلوا حلقة مهمة في مسار تطور القصيدة العربية وصولاً إلى اللحظة الإبداعية الراهنة.

وثمة درس من نوع آخر يستطيع الرواد تقديمه لنا غير المثابرة والإخلاص، إنه درس المحبة والتسامح، رغم ما يقال عن ضراوة المعارك الأدبية التي كانت تدور بين من نصفهم هنا بالرواد، وكأننا نتحدث عن كائنات من عالم آخر، ولقد تلقيت درس التسامح على يد واحد منهم وهو الدكتور المقالح بعد أن أوهمني بعض الأصدقاء بأن الرجل غاضب مني إثر مقالة كتبتها وتضمنت إشارات حادة موجهة ضده في سياق نقدي لأحد أعداد «كتاب في جريدة»

الذي دمج بين مختارات من الشعر اليمني والسعودي، ولما التقيت به بعد فترة، وجدته يرحب بي في مكتبه بابتسامته المعهودة، وكنت في حرج شديد، لكنه وبدلاً من العتاب على ما فات، التقط خيط الكلام، وراح يثني على موضوع آخر كتبته مطلع العام الجديد وأحصيت فيه أهم المحطات الثقافية البارزة خلال العام الماضي، ومنذ آخر لقاء بيننا وأنا أتذكر عدد الأصدقاء الذين خسرتهم أو خسروني ولم نستفد حتى الآن من درس التسامح
.   slamy77@gmail.com
تويتر