سرقة الأعمال الفنية.. مافيات وجنـرالات حرب ومجانين سياسة


ليس من أجل ابتسامة الموناليزا، وإنما من أجل ابتسامة لصوص الملايين والمليارات تزداد سرقات الأعمال الفنية سنة بعد سنة، حتى قاربت نسبتها السنوية 10 آلاف عمل فني..


 فكيف إذاً لا تطالعنا الأنباء يومياً بمثل هذه السرقات، وقصصها، وفنونها التي تجعل اللصوص «يتبخرون» في دقائق معدودة، وتذهب الأعمال إلى خبر كان. ثم إن هذه التجارة غير الشرعية باتت تحتل الدرجة الثالثة بعد المخدرات وتجارة السلاح، وهي تدر لروادها ما لا يقل عن ستة مليارات دولار سنوياً. ولا بأس أن تبادل لوحة «انطباع شروق الشمس» لكلود مونيه، التي بها بدأت الانطباعية، بكيلوغرامات عدة من الكوكايين.


ولا بد بالتالي أن تدخل هذه السرقات عالم التأليف، فيحمل عنوانها عددا من الكتب، لا سيما كتاب سيمون هــوبت «اللوحات المسروقة».
 
أكبر السرقات لأعمال فنية في العالم، تمثلت بثلاث، توصلنا إليها، الأولى حدثت في 18 مارس من عام 1990، في متحف غاردنر في بوسطن، والثانية حصلت في السنة التالية 1991، حينما اختفت 20 لوحة فنية من متحف فان غوغ بأمستردام، والثالثة سرقة لوحة «ميلاد المسيح» لكارافاجو من كنيسة سان لورنزو في صقلية، وتقدر قيمة كل من السرقات الثلاث، اليوم، بـ 500 مليون دولار أميركي، وإذا كانت السلطات الهولندية عثرت على الـ20 لوحة المذكورة، بسبب تعطل سيارة اللصوص، بعد 35 دقيقة فقط، فإن مسروقات غاردنر الـ13، ولوحة كارافاجو لاتزال في عداد 200 ألف قطعة فنية وأثرية على الأقل، دخلت في لوائح منظمة تسجيل المفقودات الفنية، التي أنشئت إثر السرقتين الكبريين سابقتي الذكر.
 

في حين دخلت نحو 30 ألف سرقة سجلات الإنتربول.
كل ذلك، ولا تدخل، في اللوائح، الأعمال الفنية والأثرية المسروقة من المتاحف العراقية، والتي لا تقدر بثمن، بل تختلف الإحصاءات بشأنها، كون الأعمال الإحصائية لم تتوصل حتى الآن إلى تحديد رقم محدد، علماً بأن عدد القطع الفنية التي كان يمتلكها العراق قبل الغزو الأميركي بلغ 200 ألف قطعة.


 ولا نستغرب الرقم الذي حدده مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي لقيمة القطع الفنية المسروقة سنوياً بستة مليارات دولار، ذلك أن سارقاً واحداً معروفاً، هو الفرنسي ستيفان بريتفايزر، سرق منفرداً 172 قطعة فنية من المتاحف الأوروبية، بما قيمته 9.1 مليارات دولار قبل أن يدخل السجن.


تختلف الدوافع بين لص وآخر، فاللص السابق الذكر كان من هواة جمع الأعمال الفنية، في حين كان هدف سارق الموناليزا (عام 1911) من متحف اللوفر في باريس تسليط الضوء على ضرورة إعادتها إلى إيطاليا موطن مبدعها دافينتشي.

إلا أن الهدف الأبرز لسرقة الأعمال الفنية هو جني الأرباح، ففي ظل التشدد الحاصل اليوم في المصارف للتأكد من مصادر الأموال المودعة، يلجأ المتحايلون على القوانين إلى امتلاك هذا النوع من «المدخرات».


جنرالات السرقة
ولا تنجو هذه «المهنة» من طموح قادة عسكريين وتواطؤ دول كبرى، وإلا كيف طارت 36 ألف قطعة من المتحف المصري خلال 20 عاماً من 1936 حتى 1956، بحسب مختار العطار في كتابه «آفاق الفن التشكيلي»، وهي تستقر «بأمان» في أشهر متاحف العالم.


ثم ألم تكن دولة إسرائيل، المتهمة اليوم بالمشاركة في نهب كنوز العراق، تعرف الصفة الأخرى لوزير دفاعها وجنرالها وسفاحها موشي ديان، وهي أنه كان سارق أعمال فنية، وقد جاء في أسوشيتدبرس أن «الانتصارات العسكرية جعلت الجنرال الإسرائيلي موشي شخصية أيقونية على المسرح العالمي، إلا أن سمعته كناهب للمتاحف الأثرية غير معروفة كثيراً في الخارج».


وتابعت: «خلال ثلاثة عقود حتى وفاته سنة 1981 كوّن دايان مجموعة هائلة من التحف الأثرية التي حصل عليها بإجراء حفريات غير مشروعة، كما أنه تاجَرَ باللقى الأركيولوجية في إسرائيل والخارج». 


ويقول اوزي ضهاري، نائب مدير سلطة الآثار الإسرائيلي: «موشي دايان لم يتعامل بالآثار، بل تعامل بنهب التحف الأثرية، لقد كان مجرماً، كان يعرف أنه يخرق القانون، وكان يعرف أن كل نشاطه مخالف للقانون، ومع ذلك عمل ما عمل». ويقول عالم الآثار الإسرائيلي راز كليتر (بحسب أسوشيتدبرس أيضاً): «لعل معظم أعمال النهب التي قام بها دايان كانت في الأراضي المحتلة التي غزاها، بعد 1967».


وكان جنرال آخر ألماني، من قيادة منطقة باريس في جيش الاحتلال النازي، قرر عام 1944 نقل محتويات المتحف الفني الوطني الفرنسي إلى ألمانيا، بعدما جمع فيه مختارات من المقتنيات الفرنسية الشهيرة، إلا أن مديرة المتحف ألحت بالطلب من رجال المقاومة الفرنسية إيقاف قطار الجنرال الألماني، الذي ينقل به كنوز المتحف الباريسيّ إلى برلين. وقد استطاعت المقاومة، بالفعل، تعطيل القطار.

 

وفي هذا السياق نتذكر ما أشارت إليه تقارير كثيرة من خلافات بين السوفيات والألمان استمرت طويلاً، حول الأعمال التي نهبها الجيش الأحمر السوفياتي عند اقتحامه برلين عام 1945، وكان يضم حينها فرقة خاصة تدعى «لجنة الغنائم» نجحت بعد سقوط الهتلرية في الاستيلاء على كنوز فنية لا تقدر بثمن.
 
زيوريخ مرة بعد مرة
إذا كانت آخر السرقات في زيوريخ بسويسرا تلك التي حدثت الشهر الماضي، وذهبت ضحيتها أربع لوحات فنية لكل من بول سيزان، إدغار دوغا، فان غوغ ومونيه، ويقدّر ثمنها بمئة وثمانين مليون فرنك سويسري (165 مليون دولار أميركي)، وتعد أكبر عملية سطو تُعرف في تاريخ سويسرا، فإن سرقة أخرى سبقتها بأربعة أيام فقط، عندما تعرضت لوحتان لبيكاسو للسرقة، بينما كانتا معروضتيْن في مركز سيدام الثقافي بالقرب من زيوريخ.
 
وفي عام 1994 سرقت سبع لوحات لبيكاسو من معرض بولاغ بزيوريخ. وحدثت في عام 1989 سرقة مشابهة للمعرض نفسه وسُرقت 21 لوحة من عصر النهضة.
 
ولعل أظرف السرقات في مركز الفن الحديث في زيوريخ، تلك التي حدثت عام 1991، عندما دخل ثلاثة لصوص «أبرياء» المركز، وراح اثنان منهم يثرثران مع المسؤول، فيما حمل الثالث لوحتين لبيكاسو تقدران بأكثر من 40 مليون دولار، من دون أن ينتبه له أحد. ومن السرقات الشهيرة في العالم، واحدة لتمثال هنري مور «المستند إلى الوراء»، الذي يبلغ طوله 5.3 أمتار، ووزنه طنان من البرونز، وقيمته 5.2 ملايين دولار.
 
تمت سرقته في جنوبي إنكلترا. وخلال الأعوام الأخيرة تمت سرقة 221 قطعة فنية من متحف الأرميتاج بمدينة سانت بطرسبورغ الروسية.
 
وفي النرويج سرقت عام 1994 لوحة «الصرخة» للفنان النرويجي الشهير ادوارد مونخ من غاليري أوسلو الوطني.  آخر السرقات التي تمت في سويسرا نفذها ثلاثة مسلحين ملثمين خلال ثلاث دقائق فقط، وأثناء الدوام، وفرّوا على متن سيارة بيضاء اللون، رغم أن جميع اللوحات كانت مزوّدة بنظام الإنذار. على أن أحد التفسيرات التي أطلقها المتحدث باسم الشرطة هي أن اللوحات سُـرقت لتلبية طلبية خاصة.
 

من جهة أخرى، استغل لصوص كرنفال ريو دي جنيرو، واقتحموا متحف «شاكارا دو تشيو»، الذي كان مفتوحاً أمام الزوار، واحتجزوا ثمانية أشخاص في الداخل، وسرقوا لوحات تقدر قيمتها بـ  50 مليون دولار، لكل من بيكاسو ودالي وماتيس ومونيه.


وإذا كانت المهرجانات الصاخبة فرصة سانحة للسرقة، فإن السرقة التي لاتزال لغزاً حتى اليوم، هي تلك التي أصابت متحف غاردنر، الذي سبق ذكره، إذ استغل لصان حاذقان مناسبة عيد القديس باتريك، وطرقوا باب المتحف في منتصف الليل، فنظر أحد الحراس، ليرى «شرطيين» في الخارج، ويفتح الباب على واحدة من كبريات سرقات العصر، وأكبر سرقة فنية في تاريخ الولايات المتحدة. لفّ اللصان وجهي الحارسين بشريط لاصق، لا يظهر بعده إلا الأنف، وعطّلا كاميرات المراقبة، وربطا الحارسين إلى عمودين في قبو المتحف، واستمرا في توضيب مختاراتهما المنتقاة سلفاً نحو 90 دقيقة.
 
ومصر لها حصتها من ألغاز تلك السرقات التي يجني أصحابها على التاريخ الحضاري جرائم لا تغتفر، ويجنون لجيوبهم أموالاً لا تأكلها النيران.


ففي ليلة عاصفة من شتاء عام 1979 أوقف لص سيارته في نزلة السمّان بالقاهرة، وتسلق مواسير متحف محمد محمود خليل المؤقت حينذاك، ودخل النافذة المطلة على لوحة «أزهار الخشخاش» لفان غوغ، التي كانت تقدر بأكثر من خمسين مليون دولار، وخلال دقائق قليلة ذاب السارق في ملح القاهرة، ليظهر بعد 13 شهراً ويعيد اللوحة، شرط حفظ التحقيق.


وعندما بيعت لوحة مشابهة في روما، لأحد التجار الأميركيين بـ54 مليون دولار، أثار يوسف ادريس القضية، مشككاً وآخرين في أن اللوحة المردودة مزورة، وسط إهمال وزارة الثقافة المصرية للموضوع، واعتبار اللوحة المردودة «أصلية»، من دون التحقق المفترض، مثلاً، عبر المؤسستين المعتمدتين عالمياً كريستي وسوذبي.


الإهمال نفسه حصل من قبل، في القاهرة أيضاً، عندما سرق لصان لوحة «ذات الوجهين» لبيتر بول روبنز العام 1967، وردتا بعد شهرين، ولم تتحقق الدولة من عدم تزويرها خلال المدة التي غيِّبت فيها اللوحة.
 
لكن ما فعلته الدولة المصرية، بعد هاتين الحادثتين، أن أصدر رئيس الوزراء المصري عاطف صدقي قراراً بعدم نقل لوحة «المستحمات» لغوغان إلى الخارج، بهدف ترميمها، لعدم وجود تأمين لها.

ويؤكد الخبير المصري مصطفى عمارة المختص بتكنولوجيا ترميم وصيانة اللوحات الزيتية والتحقق من أصالتها، من خلال ما نشر في موقعه الخاص، أن لوحة «أزهار الخشخاش» الموجودة في متحف خليل مزورة.

وعمارة صاحب براءة اختراع في هذا المجال، «يعتمد وجود بصمة ميكروسكوبية (طبيعية) في كل جزء من أي لوحة فنية، هي بصمة الفرشــاة، التي يستــحيل تكرارها في أية لوحة أخرى، مهما كانــت في غاية الإتقان في التقليد، بل والأكثر من ذلــك أنها لن تتكرر، حتى لو قام الفنان الأصـلي لتلك اللوحة بتكرارها، بنفس الفرشـاة والألـوان... وهذا هو الإعجاز بها».
 

ساعات الفجر
ساعات الفجر الأولى تعتبر الوقت الأكثر مناسبة للصوص، الوقت الذي لا تعرقل هروبهم حركة أو ازدحام سير، ولا تراهم فيه عين.  إذا كانت السرقات تتركز على المتاحف والغاليريات والقصور والمعارض، وقد تحدث أثناء نقل لوحة من مكان إلى آخر، ما جعل التأمين على لوحات الكبار يصل إلى ملايين الدولارات، إضافة إلى الإنفاق المترتب للشركات الأمنية، إذا كانت تطاول تلك المرافق، فإن دور العبادة لم تنجُ هي الأخرى من مثل هذه السرقات. فكنيسة سان إيجاناسيوس في روما تعرضت لفعل السرقة أكثر من أربع مرات، وشهدت منطقة شامبين في فرنسا أكثر من مئة حادثة سرقة تركزت على الكاتدرائيات والكنائس.

وشهيرة هي الحادثة التي تعرضت لها كنوز معبد «انجيكور ـ وات»، في كمبوديا، باشتباك دموي، استخدم فيه صاروخ لتدمير البوابة المنيعة.

ليس للصوص دين، ولا للتجارة في أكثر الأحيان مذهب، إلا أن بعض عمليات السرقة حملت لافتات سياسية، كما حدث في سرقة «الموناليزا» مثلاً، كما أسلفنا، وكذلك ما حدث عندما سرق مجهول لوحة شاغال «تأمل فوق فيتبيسك»، من المتحف اليهودي في نيويورك عام 2001، وأَتْبَع ذلك ببيان قال فيه: «سوف تبقى اللوحة محفوظة حتى يتحقق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فيعيد اللوحة إلى أصحابها».
 
 
أما البيان فقد حمل توقيع «اللجنة الدولية للفن والسلام». إلى ذلك، فقد اشترط سارقو لوحة «الصرخة» لمونخ من صالة العرض الوطنية في أوسلو، لإعادتها، بثّ شريط تلفزيوني ضد الإجهاض. 

وترتفع حرارة السرقات سنة بعد سنة، كلما ارتفعت أسعار الأعمال الفنية، ما يجعل الأرقام التي أوردناها غير ثابتة، بل هي، في الأساس، تختلف بين تقرير وآخر. وكلما ارتفعت الأسعار سال لعاب اللصــوص والمافيات والزبائن الذين يتفنون في طلبــاتهم، أو الذين يجدون في التركيز على عالم الفن، سبيــلاً لغسل أرواحهم وأموالهم في آن.
 
 
السرقات إلى ازدياد، لا يهم أصحابها إن كانت تشكل اغتيالاً للتاريخ ومسيرة الشعوب الحضارية.

إنها الحرفة التي لا تضاهيها حرفة أخرى في مطاردة الملايين، ويمكن أن تكون أي دولة في العالم مسرحاً لها. لكن أسعار اللوحات الفنية في لبنان، ولله الحمد، لا تستأهل مشقة العصابات الدولية المختــصة. أما الآثار التاريخية الثمينة عندنا، فلها قنــواتها «المأمونة» وقصورها «المصونة»، المنفتحة على روافد نهر السرقة الجارف..
 لكن، «لا مين شاف ولا مين دري»!
تويتر