المسابح تتنوع في حجمها وألوانها والمواد المستخدمة فيها. تصوير: شاندرا بالان

المسبحة.. مفتاح لمعرفة شخصـية حاملها

بين محال السوق الإسلامي في الشارقة، وفي طابقها الأول المكتظ بالفضيات والأنتيكات، المزيّنة لواجهات عتيقة، محل متناهٍ في الصغر، تتكدس فيه مسابح، متنوعة في أحجامها وأشكالها وألوانها، بينما ينشغل صاحبه، صانع المسابح محمد الحداد والمعروف باسم «أبو شادي» في عمله اليومي في صنع المسابح التي تنتشر حوله، معلقة بأكداس مصنفة، على كل بوصة، من جدران المحل، وعلى أرضيته، تاركة مساحة صغيرة له للعمل، الذي يمارسه بشغف شديد، ورثه إضافة إلى علم كبير بالأحجار، عن والده.

لا يتوقف شغف أبو شادي بالمسابح عند حد صناعتها، بل تصل به إلى الشعور بالضيق والاضطرار إلى تصليح أو تزيين مسابح الآخرين عندما تكون بحالة سيئة، من دون أن يطلب منه ذلك، موضحا أن اختيار المسبحة يعد مفتاحاً للولوج إلى داخل الإنسان الذي يحملها، مؤكداً أنه يستطيع معرفة شخصية الآخرين من مسابحهم، التي تتنوع وتختلف تصنيفاتها، بين الرجال والنساء.

وقال لـ«الإمارات اليوم»: «تشربت مهنة صناعة المسابح، وأصبحت في دمي، إلى درجة أنني أستطيع أن أستشعر شخصية المرء من اختياره لمسبحته، وبمجرد دخوله إلى محلي، أكتشف غايته، وما يريد من أصناف»، مبيناً أن شخصيات الأفراد تتنوع مع تنوّع مسابحها «حيث يتصف المرء الذي يفضل مسابح الكهرمان بأنه حساس، كحال هذا الحجر الغريب، وشديد الحساسية، والذي يحتاج دائماً إلى رعاية واهتمام»، بينما يميل الذي يفضل المسابح العاجية عادة إلى التباهي ولفت الأنظار، ومن يفضلها من المرجان الأسود يميل إلى التبارك والروحانية.

وراثة المهنة

وذكر أبو شادي أنه ورث حرفة صناعة المسابح من والده منذ مطلع الستينات، وأنه انتقل في طفولته مع والده وأخيه من سورية إلى مدينة الحجاج في جدة في السعودية، حيث افتتح والده محله هناك، وأضاف « كنا نعين والدي في عمله، فتشربنا منه حرفته، وورثناها عنه»، مشيراً إلى أن الحرفة لا تقتصر على عملية صنع المسبحة فقط، بل تبدأ في المقام الأول عبر تعلّم أنواع الأحجار الكريمة وشبه الكريمة، وتكوينها، وطرق التعامل معها، والحفاظ عليها، إضافة إلى كيفية معرفة ما إذا كانت أصلية أم لا، ومصادرها، ومنشئها.

وبين أن المسابح تتنوع وتتفاوت في أسعارها، بحسب الأحجار المستخدمة فيها، وبحسب الحاجة من حملها، «فهناك من يحملها للذكر، وهناك من يحملها للزينة، مغيراً ألوانها وأصنافها بحسب ما يرتدي، وبحسب ما يميل إليه في كل يوم»، مشيراً الى أنه قد يبدأ سعر المسابح من دراهم معدودات، وحتى عشرات الآلاف من الدراهم. وأوضح أن هناك أنواعاً عدة من المسابح، حيث تبدأ من ذات الـ33 حبة، و«هي المتداولة، وأكثرها رواجاً، كونها صغيرة وسريعة الاستخدام، إضافة إلى ذات الـ99 حبة، وذات الـ100 حبة التي يستخدمها الأفراد عند الذكر، والمسابح ذات الـ1000 حبة، وتستخدم أيضاً للذكر»، مضيفاً أن هناك من يأتي ليطلب مسابح من 5000 وحتى 10 آلاف حبة. وأفاد بأن هناك المسابح ذات الـ45 حبة للزينة والديكور، وهناك ذات الـ108 حبات، ويستخدمها الهندوس، وهذه المسبحة ليس فيها فواصل، بينما يأخذ مكان الشرابة، خيط سميك ينتهي بحبة .

وأفاد بأن هناك مسابح رجالية ونسائية ، والثانية عادة ما تكون ذات ألوان زاهية ومميزة، واللون هو عادة ما تميل إليه النساء، مفضلات المسابح ذات اللون الأحمر، أو المصنوعة من الفيروز، أو الكريستال، مائلة إلى القطع الناعم والشرابة المميزة الناعمة»، بينما يميل الرجال إلى المسابح التي تتميز بتصميم يلفت الانتباه ويميز مسبحته عن المسابح الأخرى، بينما يميل إلى المسابح داكنة اللون، والأكبر حجماً في حبتها، مشيراً إلى أن هناك مسابح «تستخدم في الجلسات، والدواوين الرجالية، وعادة ما تكون كبيرة الحجم وضخمة، ولها مزاج خاص، حيث يسمع وقع الحبة على الأخرى عند استخدامها، وأسميها مسبحة الجلسة أوالمزاج».

حكاية الكهرمان

ولفت أبو شادي إلى أن صناعة المسابح تجلب معها حرفة علم الأحجار، حيث لكل حجر حكاية يمكن معرفتها عبر إلقاء نظرة عليه عبر العدسة المكبرة، التي تبين حالة الحجر، وما مر به، وأكثر الأحجار المطلوبة في المسابح هو حجر الكهرمان، «الذي تتفاوت درجاته، بين الأصفر الفاتح الشفاف، وحتى المشمشي، أو الأحمر الناري، وحتى القرمزي»، كما أن أكثر أحجار الخواتم رواجاً بين الرجال، الخواتم المزينة بحجر العقيق، وتميل النساء إلى الخواتم المزينة بحجر الفيروز، وتتنوع الأحجار والمواد التي تدخل في استخدام المسابح ـ حسب أبو شادي ـ ابتداءً من حجر الكهرمان، والعنبر الهندي، وعنبر قشقوان، والعاج، والكريستال، وحجر اليسر، والفيروز، وخشب الكوك، وخشب الأبانوس، إضافة إلى الأحجار الكريمة، من زفير، وزمرد، وياقوت.

وأوضح أبو شادي أن مرحلة صناعة المسبحة لا تبدأ من صناعة ومعالجة الأحجار، حيث تجلب الأحجار ومواد صنع المسابح جاهزة من مصانعها المنتشرة في دول معينة، تشتهر في إعداد حبات المسابح، وتعتبر تركيا أشهرها، حيث يتم تصنيع أجود أنواع المسابح هناك، ثم مدينة حلب السورية، ثم مصر المتخصصة في صنع المسابح التجارية، إضافة إلى مدينة النجف في العراق، وإيران . وأوضح أنه يمكن أن يتعرف إلى بلد منشأ المسبحة من قطعها وخراطتها. ونوه بأن طرقاً خاصة للتعامل مع الأحجار الكريمة وشبه الكريمة، وأن تحويل العاج والخشب إلى حبات للمسابح «يبدأ من خلال قطع العاج على سبيل المثال من ناب الفيل، ومن ثم تحويله إلى ألواح بطول 20 سنتيمتراً تقريباً لكل منها، ومن ثم يتم تقطيعها إلى شرائح طولية أشبه بالمساطر، ثم يتم تقطيعها مرة أخرى مكعبات»، وتتفاوت أحجامها بحسب الطلب وحجم حبة المسبحة، ومن ثم يتم تحويل المكعب إلى حبة، يتم ثقبها في مكان إدخال الخيط، ثم وضعها في قلائد مؤقتة، حتى تصل إلى صانع المسابح، مشيراً إلى أنها تسمى بعد ذلك بـ«المسبحة الخام».

وتابع أبو شادي «يختار صانع المسابح الحجم المرغوب فيه لصنعها، ويجب أن تكون خيوط المسابح من الحرير، كونها شديدة المتانة ولا يمكن أن تقطع مهما حاول الرجل شدها»، كما يضع الفواصل أو الشواهد بين مجموعات المسبحة التي عادة ما تكون بعد كل 11 حبة، ويجب أن تكون من حجر المسبحة نفسه، مضيفاً «إن لم يتوافر ذلك، نضع الفواصل المصنوعة من الفضة، أو أي معدن قررت استخدامه لصنع المسبحة».

وأوضح أن المعادن تتفاوت، بين الذهب، والفضة، والبلاتين، والنحاس، والكروم، ويمكن أن تطلى بهذه المواد، وأغلاها ثمناً الذهب، ثم البلاتين، ثم الفضة، ثم النحاس، وأخيراً الكروم ، وتتنوع شرابات المسابح في أشكالها، وكل تصميم أو شكل يعود إلى بلد معين، فمنها الشرابة العراقية، والتركية والقطرية والكويتية، لتنتهي عملية صنع المسبحة بلسعة صغيرة من النار، وهي الطريقة التي يتم ربط الخيط فيها، بهدف ألاّ يكون مكان ربط الخيط ظاهراً، حيث تلتصق الخيوط الحريرية مع بعضها بعضاً وتتداخل، مخفية معالم الربط.

ثروة حقيقية

وأكد أبو شادي أن هناك مسابح يمكن اعتبارها إرثاً حقيقياً، وثروة قد يتركه الأب لأبنائه، ومنها المصنوعة من الكهرمان، التي كلما قدمت غلا ثمنها، إضافة إلى المسابح النادرة المصنوعة من خشب الكوك، فمنها ما يعود إلى 100 أو 150 عاماً مضت، موضحا أن خشب الكوك يعتبر أحد الكنوز التركية، وشجرة نادرة ذات جوانب روحانية مقدسة، وهي من الأشجار التي لا تكبر بعد قطعها إلا بعد 100 عام أو أكثر، مضيفاً «هناك اعتقادات بأنها الأشجار التي صنعت منها سفينة سيدنا نوح عليه السلام».

وبين أبو شادي أن المسابح المصنوعة من الكهرمان تعتبر من المسابح المفضلة وكثيرة الرواج، والحفاظ عليها سنوات طويلة يعني ارتفاع قيمتها وسعرها، كما أن أسعار الكهرمان تتفاوت بتفاوت جودته وقدمه.

بلد المنشأ

أفاد صانع المسابح محمد الحداد (أبو شادي) بأن لكل حجر بلد منشأ، حيث يعتبر أفضل أنواع الكهرمان، الألماني، وتعتبر أفضل أنواع الزفير والزمرد والياقوت القادمة من بورما، ويعتبر الفيروز الإيراني أفضل أنواع الفيروز.

موت الحجر

لفت أبو شادي إلى أنه على الرغم من أن الحجر مادة صلبة وجامدة قد لا يبدو عليها الحياة، إلا أنها تتنفس وتعيش بسبب احتوائها على الماء، و موت حجر ما يعني تعرضه للنشفان وانتهاء الماء منه، ما يبدو واضحاً مع حجر الفيروز الأزرق، و عند موته يمكن وضعه في شحم الخروف نحو 24 ساعة، ليعود إلى زرقته الزاهية، مشيراً إلى أن هناك نوعين من حجر الفيروز القادم من إيران، والذي يعتبر من الأنواع الجيدة، أحدهما «الرضوي» الذي يحتوي على شوائب من الرصاص تزين سطحه، وهناك «الحسيني» الذي يكون صافياً، وتتساوى قيمتهما، إضافة إلى الفيروز ذي القيمة الأقل ويسمى بـ«عبدالرزاق» والقادم من مصر.

الأكثر مشاركة