أيتام الحروب.. ورثة أحزان مضاعـفة

أيتام الحروب يتجرعون مرارات الألم مرات عدة. أ.ب

مع الضخ اليومي لصور ومشاهد مآسي الحروب وتبعاتها على شاشات التلفزيون، لا يمكن لأمس الذي صادف اليوم العالمي لأيتام الحروب، سوى أن يكون يوماً آخر قد لا يعني الكثير ليتيم تحول أيامه جميعها لغربة ومستقبل لا يسلم من الأذى، فصورة الضحايا تحولت إلى مشهد روتيني، يخفي خلفه قصصاً مؤلمة لأيتام وأرامل ورثوا أحزاناً مضاعفة لم تعد برودة العالم تستوعبها، فبين أيتام العراق ومشرديه، وفلسطين الـ 60 عاماً ونكبة غزة المستمرة، وأفغانستان، والسودان، والصومال، ودول عدة أخرى ملتهبة بنار الحروب، ترتفع يوميا حصيلة الضحايا، وتزيد معها في كل ساعة غلة الأيتام والمشردين لتصل إلى الملايين، وتتحول في كل دقيقة حكاية طفل يفكر في درس الغد، إلى حكاية أخرى ليتيم كل ما يتمناه هو وجبة اليوم.

ففي العراق لايزال الأيتام الذين يقدر عددهم بحسب بعض التقارير بنحو 4.5 ملايين طفل، يعانون في جميع النواحي، المادية، أو الصحية، أو المعنوية، أو التعليمية.

ويصعب الوصول إلى رقم دقيق أو قريب لما يحدث لأطفال غزة حتى هذه اللحظة، فالقتل مستمر، وتزداد نسبة أيتام الحرب في فلسطين يومياً، إلا أن إحصاءات سابقة بينت أن هناك نحو 22 ألف يتيم في قطاع غزة فقط، بينما هناك ما يماثل أو يفوق هذا العدد من الأيتام في الضفة الغربية.

ويعتبر أطفال غزة هم الضحية الكبرى في الحرب الإسرائيلية على القطاع التي بدأت في 27 ديسمبر الماضي، ولاتزال مستمرة خلال العام الجديد، فالأعداد الكبيرة من الشهداء في اليوم العالمي لأيتام الحروب الذين وصلوا إلى أكثر من 521 شهيداً خلفت مئات الأيتام الذين فقدوا آباءهم أو أمهاتهم، كما أن ما يقارب 120 طفلاً ارتقوا شهداء في الحرب المستمرة.

وعلى الرغم من أن هناك عدداً من الجمعيات والمؤسسات الخيرية العربية التي تولي أيتام فلسطين الاهتمام، على سبيل المثال يتكفل «الهلال الأحمر الإماراتي» بـ 35٪ من أيتام غزة، بينما تتكفل لجنة المناصرة الإسلامية للشعب الفلسطيني في الأردن بـ 9٪ منهم، إلا أن الأوضاع الراهنة في تدهور مستمر، بين جوع، وتدمير مجحف لمنازل، وتشريد يومي للأطفال.

أبناء شهيد

أطفال الشهيد محمد الخالدي.من المصدر

والتقت «الإمارات اليوم» عائلة الشهيد محمود الخالدي ( 39 عاماً) الذي استهدفته صواريخ الاحتلال خلال دورة تدريبية للشرطة الفلسطينية التابعة للحكومة المقالة في غزة، وتيتم أطفاله الخمسة، وأصبحوا محرومين من حنان الأب طوال حياتهم، والأطفال هم مصطفى 14 عاماً وهو الأكبر، ومطاوع 12 عاماً، ومريم 11 عاماً، ومرام سبعة أعوام، وأصغرهم محمد أربعة أعوام.

وقال الطفل مصطفى «كنت عائداً إلى المنزل من المدرسة ظهر اليوم الأول للمجزرة، ووصلت المنزل بعد أن بدأ القصف لمقر الشرطة الذي كان يعمل فيه والدي، وجاءنا خبر أن والدي بين الشهداء أو الجرحى، وبكيت كثيراً وخشيت أن يكون والدي قد استشهد، وبقينا حتى الساعة 11 ليلاً لا نعرف مصيره».

وأضاف «كانت الساعات التي انتظرنا فيها معرفة مصير والدي من أشد لحظات حياتنا، وكنت أبكي كثيراً أنا وإخوتي، إلى أن جاء ابن عمي وقد أحضر معه حذاء والدي فلحظتها تأكدت أنه استشهد، فبدأنا بالصراخ».

وأوضح محمود ابن شقيق الشهيد أنه وجد عمه أشلاء ممزقة بين الشهداء بعد أن قضى ما يقارب 10 ساعات من البحث عن مصيره سواء مصاباً أو شهيداً، ليجدوه بين أشلاء الشهداء التي لم تسعها ثلاجات الشهداء، حيث إنهم عرفوه من حذائه وساقه والملابس التي كان يرتديها.

وقال الطفل مطاوع «أنا حزين جداً لأنني فقدت أبي، لقد كنت أحبه كثيراً، وكان يصطحبنا معه إلى المسجد والسوق، وفي عيد الأضحى الأخير أخذنا لنتنزه على البحر، وذهبنا إلى عماتي وأعمامي، وأحضر لنا الحلويات والألعاب، ولكن بعد أن استشهد سنحرم من كل ذلك».

وأضاف «نشعر بالحزن الكبير بعد رحيل والدي، فقد كان حنوناً علينا، وكنا مطمئنين في وجوده، ولكن اليوم نخاف كثيراً إذا حل الليل الذي يكون مظلماً كثيراً بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن القطاع بشكل كامل، ونصرخ كثيراً كلما سمعنا أصوات الطائرات والقصف المتواصل، فكان أبي يحضننا إذا شعرنا بخوف».

حرمان
وقالت الطفلة مريم التي لم تفارق عينها صورة والدها المعلقة وسط المنزل «كُتب علينا أن نعيش بلا أب وأن نكون أيتاماً طوال العمر، وهذا ما يجعل الحزن لا يفارقني، فما ذنبنا أن نحرم من كلمة بابا ونحن مازلنا أطفالاً لم نع ما معنى الحياة ومسؤولياتها، ونحن لسنا وحدنا، بل هناك المئات من الأطفال قد حرموا من آبائهم بسبب المجازر الإسرائيلية». وقال الطفل الأصغر محمد وسط حزن أمه وأشقائه «بابا راح على الجنة عند الله، واليهود طخوه».

وقالت أم مصطفى زوجة الشهيد الخالدي إن «محمد كان يحب والده كثيراً، وكان متعلقاً به بصورة كبيرة، واليوم لا يتوقف عن الحديث عن و الده، بل عندما يأتي الليل يبكي الطفل كثيراً ويسأل عنه». وأضافت «مرض محمد بعد ان استشهد زوجي، وأصابته نزلة حادة، وقد خفت حالته يوم أمس، ولكنه مازال يسأل عن والده».

وحُرمت الطفلة هيفاء (أربعة أعوام) وشقيقها عبداللطيف من والدهما شعلان عبدالسلام (40 عاماً) الذي استهدفته طائرات الاحتلال الإسرائيلي، ليقضيا حياتهما يتيمين بلا أب.

آثار نفسية
وقال الاختصاصي النفسي وأستاذ علم النفس في الجامعة الإسلامية في غزة الدكتور محمد الحلو، إن «الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة وآثارها من قتل ودمار لها آثار نفسية متعددة، فيصاب الطفل بداية بما يُسمى بالأمراض نفس جسمية، وذلك نتيجة مشاهدته لوالده وهو يقتل أمام نظره مما يؤثر كثيراً في نفسه، كما أن الطفل يصاب بجروح جسدية جراء ذلك، فهذه الإصابات تزيد من حجم الآثار النفسية لديه».

وتابع «يُصاب الطفل بأمراض الصدمة جراء فقدانه لوالده أو أمه، وقد تستمر هذه الصدمة طوال حياته، حيث يصاب بغثيان، وقلق دائم وتبول لا إرادي، وفقدان للشهية، وحقد لمن قتل والديه، وربما يكره كل من حوله ويرفض التعامل معهم، ويصاب بأمراض ما بعد الصدمة، حيث يسكن الحزن قبله نتيجة فقدانه والده، وفي كل فترة يسأل عنه».

وبين الحلو أن هذه الآثار تؤثر في شخصية الطفل طوال حياته، وقد تجعل منه شخصية انطوائية ترفض التعامل مع الآخرين لأنه يشعر بالنقص جراء فقدانه والده، حيث إن والده أو أمه يمثلان له كل شيء في حياته، وبفقدانهما يعتبر أن الدنيا توقفت.

وأوضح أن فقدان الآباء يوجد آثارا اجتماعية أخرى داخل الطفل، الذي يحرم من والديه في الأعياد والمناسبات، فيجد أن آباء الأطفال الآخرين حولهم يلاعبونهم ويعطفون عليهم، بينما هو محروم من ذلك، لافتاً إلى أنه من الصعب أن يقبل الطفل أحداً غير والديه اللذين كانا يعطفان عليه، ويوفران له كل ما يحتاج إليه.

4.5 ملايين عراقي
ووفقا لإحصاءات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في العراق، والتي نشرت على أحد المواقع الإلكترونية، فإن عدد الأطفال اليتامى في العراق يقدر بنحو أربعة ملايين ونصف المليون يتيم، 70٪ منهم منذ بدء الحرب، وطبقاً للمصدر نفسه، فإن نحو 600 ألف طفل من دون مأوى، ويقضون نهارهم بحثاً عما يُؤكل أو يُشرب، بينما يختبئون لقضاء الليل في أزقة ومناطق يعتقدون أنها بعيدة عن أعين المسلحين.

ومن ملايين أيتام العراق، هناك 700 طفل فقط ممن تؤويهم دور رعاية الأيتام والتي يبلغ عددها 18 داراً فقط، والتي تفتقر لأساسيات احتياجات الأيتام ومستلزماتهم، بينما يشتكي أغلب الأطفال فيها من سوء المعاملة وقسوتها من قبل إدارة هذه الدور.

وذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف» ان عمالة الأطفال في العراق «ازدادت بصورة بالغة منذ الغزو في مارس 2003». وصرح مدير العلاقات الخارجية لليونيسيف، كيلاري حجاج، بأن الوصول إلى رقم دقيق عن نسبة العمالة بين الأطفال في العراق أمر يصعب تحقيقه «كون الرقم يزداد بشكل سريع جدا نتيجة لموت عدد كبير من أرباب الأسر المستمر، خصوصاً بين عامي 2006 و2007».

بينما ناشدت مديرة الجمعية العراقية للأيتام والفقراء، أمل طارق، في أحد التصريحات التي نشرت عبر الإعلام المسؤولين تقديم الدعم المادي للأيتام.

وقود الحروب
ووصف اختصاصي الطب النفسي علي الحرجان، الأوضاع التي يواجهها الأيتام في العالم العربي بالمأساة البشعة واليومية، مضيفاً «على الرغم من أننا عالم يدعي التحضر والتقدم العلمي والبشري في مجالات عدة، إلا أننا في المقابل نواجه بعداً كبيراً عن الإنسانية وارتفاعاً كبيراً في أعداد الحروب وقسوتها خلال الـ 30أو الـ 20عاماً الماضية، بالشكل الذي لا يقبله أو يستوعبه عقل»، مشيراً إلى أن الأطفال كانوا وقود تلك الحروب، حيث خلفت هذه القسوة البشرية بآلياتها المميتة، ملايين الأيتام المنتشرين بشكل مكثف في العالم العربي والإسلامي، على حد قوله.

وأوضح أن أيتام الحروب هم «أطفال تعرضوا لظروف مأساوية مضاعفة، فهم ليسوا بأيتام اعتياديين فقدوا الأب أو الأم في ظروف طبيعية، بل واجهوا صدمة وخوف الانفجارات والدمار وتحوّل الأب أو الأم أو كلاهما معاً إلى رماد تحت أنقاض كانت يوماً منزلاً دافئاً»، مشيراً إلى أنها عملية نفسية مركبة ومضاعفة «تخلق آثاراً نفسية وسلوكية آنية وأخرى بعيدة المدى تستمر لأجيال عدة، كونها تنتقل مع الإنسان عبر سنوات عمره».

وأعطى الحرجان مثلاً بالأطفال الذين واجهوا الحرب العالمية الثانية، إذ إن «هناك العديد منهم، وهم الآن كبار في السن عمرهم يتخطى 60 عاماً لا يزالون يتابعون العلاجات النفسية ومازالوا يعانون آثارها»، مؤكداً أن أطفال العراق وفلسطين وأطفال عدد من الدول الإسلامية والعربية، واجهوا ما هو أسوأ حالاً مما واجهه الأطفال في الحرب العالمية «ويمكن تخيل الآثار النفسية المدمرة التي يواجهونها يومياً، فهم يعيشون رعباً لم يعشه قبلهم أحد، خصوصاً مع انعدام الرعاية والأمن».

وحث الحرجان على أهمية تقديم الرعاية المكثفة لهؤلاء الأطفال، مناشداً «المجتمعات أن تقدم الحنان والمساعدة، وأن تتحول إلى أب لهؤلاء الأطفال، ، وأن توفّر لهم الرعاية النفسية والمعرفية والأمنية والصحية، بعيداً عن مشاعر الشفقة والنظرة المميزة لهم بكونهم أيتاماً ومساكين»، مشيراً إلى أن التمييز المجتمعي لهم بكونهم أيتاماً مساكين يمكن أن يولد بداخلهم انكساراً نفسياً.

تويتر