ينافس في خانة أفضل فيلم أجنبي

«ألم ومجد».. تأملات ألمودوفار تصنع أفضل أداء لبانديراس

صورة

أهم فكرة يعرضها الفيلم الإسباني Pain and Glory (ألم و مجد)، هي هل يتأثر الفن سلباً بآلام الفنان؟ تسخر شخصية في الفيلم عند طرح السؤال عليها، وهو مخرج تجاوز منتصف العمر، ودعي لحضور حفل إعادة إصدار فيلم طرحه منذ 30 عاماً، لم يُقدّر وقتها، لكنه حاز التقدير المطلوب عبر السنوات اللاحقة، وهذا من سمات السينما الجميلة والغريبة.

الفن من المهن القليلة التي لا تتأثر سلباً بالألم، ومن المعروف أن أفضل الفنانين ترجموا آلامهم عبر فنونهم، وقرأنا كثيراً أن سينمائيين ألهمتهم آلامهم لصنع أفلامهم، وأقرب مثال لدينا هو نوا بومباك في فيلمه «قصة زواج»، وبالطبع هذا الفيلم الذي يشكله الألم ولا يعيقه أو يشوهه.

الفيلم من كتابة وإخراج بيدرو ألمودوفار، صاحب فيلم «كل شيء عن أمي»، الحائز أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1999، الذي يعود بقوة هذا العام للمنافسة في الخانة نفسها. أسلوب المعالجة في الفيلم يوحي بحقيقة واحدة، أن صانع أفلام محترفاً فقط يستطيع تحقيق شيء مميز مثل هذا الذي يعد فيلماً شخصياً جداً، يقود بطولته المكسيكي أنطونيو بانديراس، في أفضل أداء له خلال مسيرته السينمائية، وترشح عنه كأفضل ممثل في الكثير من المحافل السينمائية، آخرها «غولدن غلوب». قرار اختيار بانديراس لدور سلفادور مالو، في فيلم عن المخرج نفسه، يمزج الخيال بالواقع بشكل مثير للاهتمام جداً، خصوصاً أن اختيار بانديراس جاء بعد ظهور الأخير في عدد من أفلام المخرج، منها «ماتادور» و«تاي مي أب! تاي مي داون!»، و«البشرة التي أعيش بداخلها»، بكلمات أخرى.. لا أحد يفهم ألمودوفار كما يفهمه بانديراس الذي عمل معه لثلاثة عقود.

عندما يبدأ «ألم و مجد» في ستينات القرن الـ20، نرى قساً في مدرسة كاثوليكية يسأل طالباً واعداً عن ذوقه في الفن، فيرد الطالب: أحب فرقة البيتلز والسينما، يمتعض القس ويقول: هنا سنطوّر ذوقك ونوجهه لاهتمامات غير دنيوية.

ينتقل الفيلم إلى الزمن الحالي، ونرى مخرجاً شهيراً يلم شمله مع ممثل كان نجماً من صنع المخرج نفسه. رؤية بانديراس في الدور علامة واضحة على إشارة المخرج إلى نفسه، لكن هل شخصية ألبرتو كريسبو (آسيير إتشندي) تشير إلى بانديراس نفسه في الماضي؟ أم إلى أحد في حياة المخرج؟ أم إلى خيال بحت؟

غالباً هي مجموعة من الأشخاص الذين عملوا مع المخرج وعرفوه عن قرب، المهم أن الفيلم يصور خلافاً بينهما، مالو غير راضٍ عن عمل كريسبو في الفيلم المذكور منذ 30 عاماً، ويتهمه بأن أداءه كان نتيجة إدمانه الهيروين. في الوقت الحالي، يلتقيان في جلسة مفتوحة للإجابة عن أسئلة معجبيهم والمهتمين بالإصدار الجديد، مالو في هذا الزمن مريض، وشرح في بداية الفيلم مجموعة الأمراض التي يعانيها، لكنه يقرر تجربة الهيروين! هذه قصة شخص يحاول الوصول إلى ماضيه للحصول على ما يكوّن حاضره أو يلهمه، وهي حركة ليست بالضرورة صحيحة لكن الكثير من الفنانين يفعلونها، وهي خطيرة جداً وتقود حتما إلى الإدمان والموت، كما حدث مع عدد من نجوم السينما.

ليست قصة إدمان، رغم أنه يبدأ بالإدمان إلا أنه يذهب في اتجاهات غير متوقعة، كلها تتقاطع مع ذكريات مالو في طفولته، والأحداث التي شكلتها، وكفاح والديه لتوفير أفضل بيئة له، رغم ظروف الفقر في فالنسيا الإسبانية أيام حكم الجنرال فرانكو. في المشاهد الاسترجاعية تؤدي بينيلوب كروز دور والدة مالو، الحريصة على تربية ولدها والخائفة عليه، والتي تطمئنه مراراً وتكراراً بأن كل شيء سيكون على ما يرام، رغم أنهم يعيشون في مغارة.

أجمل جزئية في المشاهد الاسترجاعية، تعليم سلفادور القراءة والكتابة لعامل يأتي للمساعدة في تحويل المغارة إلى منزل. ومن أجمل مشاهد علاقة سلفادور بأمه مشهد زيارتها وهي كبيرة في السن (تؤديها جولييت سيرانو)، ويتعاكس مع مشهد الأم وطفلها المذكور أعلاه، حيث تقول له وهي عجوز: لم تكن ابناً صالحاً قط! مشهد يحمل الكثير من الألم، خصوصاً عندما لا تكون الأم راضية. علينا تقدير أن الفيلم بأكمله عن علاقة مخرج مؤلف وممثل، وعلينا تقدير أن الثقة التي تجمع الاثنين صنعت فيلماً شخصياً من دون أن تخدم مصالح أي منهما.

يوجد تاريخ طويل من صناع الأفلام الذين يصورون تجاربهم الشخصية في الحياة في أفلامهم، وكيف يتصالحون مع ماضيهم. «ألم و مجد» يمكن مقارنته مع «ثمانية ونصف» لفريدريكو فليني، وThe 400 Blows لفرانسوا تروفو. ألمودوفار لم يخجل أبداً من سرد قصص في حياته، خصوصاً عن النساء من حوله، لكن هذا الفيلم تحديداً يحمل قدراً كبيراً من الحزن والألم.

وذلك يعود للطريقة التي يضع فيها نفسه وسط الفيلم، ليس كمراقب أو كذاكرة سينمائية، لكن كبطل يعيش التجربة، يسأل أسئلة عن طبيعة الحياة والفن، وهي أسئلة طرحها الكثير من صناع الأفلام قبله، ليس ساخراً كأفلامه السابقة، لكنه متوازن في توزيع الشخصيات.

هناك ثقة محسوسة ومتبادلة بين ألمودوفار وبانديراس، ومن الواضح أن الصداقة الوثيقة بينهما أثرت في أداء بانديراس بشكل استثنائي لا يستطيع أي ممثل آخر فعله، قد يكون الفيلم استطرادياً للبعض من كثرة التفاصيل والطبقات والقفز بين خطين زمنيين، لكن هيكل النص مثير للاهتمام، وليس صعب الفهم أو المتابعة، رغم أنه لا يجيب على كل الأسئلة ولا يضع النقاط على كل الحروف. من دون إفساد أي شيء على من أراد مشاهدة الفيلم، فإن أفضل مشهد هو الأخير، حيث يكتشف مالو قطعة فنية لم تكن لتصنع لولاه ووالدته، وينتهي المشهد بولادة مشهد آخر منه بشكل غير متوقع وخلاب. نعم، الألم قد يشكل الفن لكنه أيضاً يوثق الجمال بشكل لا يفعله أي عامل خارجي آخر.

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.


الفن من المهن القليلة التي لا تتأثر سلبا بالألم، وأفضل الفنانين ترجموا آلامهم عبر فنونهم.

الفيلم بأكمله عن علاقة مخرج مؤلف وممثل وعلينا تقدير أن الثقة التي تجمع الاثنين صنعت فيلما شخصيا دون أن تخدم مصالح أي منهما.

تويتر