الاحتلال هجّر جميع سكانها ليضمها إلى مستوطنة «معلوت»

ترشيحا.. عروس الجليل حاضرة في قلوب مهجريها

صورة

«إنه يوم ترشيحا، إنها صرخة دامية من رحم الأرض، تناجي الحرية وعودة الحق، صرخة الزيتون وغارسه وابتسامة أطفال يلهون فوق راحتيها على أنغام مسيرة أبنائك، وأشواق عيون في المهجر، أكتب ترشيحا العروس الباقية فينا ما دامت الشمس تتربع في السماء».

احتيال وسرقة أراضٍ

يقول الناشط الفلسطيني نصري مدكور «لقد تم الإعلان عن معلوت وترشيحا مدينة واحدة في عام 1995، تحت إشراف رئيس البلدية، شلومو بوحبوط، الذي أتقن طرق الاحتيال ومصادرة الأراضي».

ويوضح مدكور أن المخطط المزعوم يصادر نحو 1500 دونم من الأراضي الخاصة، كي تقوم البلدية بتطويرها وإقامة عمارات سكنية ذات طابع مدني عليها، دون الاكتراث إلى مصالح أصحاب الأرض بشكل خاص.

1948 تم تهجير أبناء قرية ترشحيا التابعة لمدينة عكا المحتلة.

هكذا يعيش الوطن داخل كل لاجئ فلسطيني، ليختلف عن بقية سكان العالم الذين يعيشون داخل أوطانهم بأمان وسلام، فعلى الرغم من مرور أكثر من ستة عقود من الزمن على تهجير قرية ترشحيا بمدينة عكا المحتلة على يد العصابات الصهيونية عام 1948، إلا أن صورة فلسطين مازالت حاضرة في ذهن كل فلسطيني سكن فيها، وهجّر منها قسراً، فيما يقضي عمره يحلم بالعودة، رغم الاحتلال الذي يستوطنها ويمنع سكانها من الرجوع إليها.

وتبقى ترشحيا حاضرة في قلوب الأجيال المتلاحقة التي لن تنساها مهما دارت الأيام، لتحافظ على ذكريات الكبار الذين عاشوا فيها الكثير من الأيام الممزوجة بالفرح والحزن والتحدي، ففي مساء بارد من كل عام، يحيي أبناء وبنات ترشيحا ذكرى سقوط عروسهم، عروس الجليل، ذكرى دموع لم تجف بعد، إنه الحنين يضيء سماء القرية، ومسيرة مشاعل تنير درب النجوم.

على سفح جبل المجاهد في أعالي الجليل، وعلى مسافة 27 ميلاً إلى الشمال الشرقي من مدينة عكا تقع قرية ترشيحا، أو «عروس الجليل»، كما يفضّل سكانها تسميتها، وهي الكنية التي اكتسبتها القرية نسبة إلى تاريخها وحضورها المتميز في الساحة الفلسطينية، منذ أن أبصرت النور قبل نحو 900 عام.

وتعد ترشيحا من أهم قرى قضاء عكا، وأكثرها سكاناً في عهد الانتداب، حيث ضمت مسجدين ومدرستين، وتقام فيها سوق أسبوعية، يؤمها أهل القرى المجاورة، واسمها يتألف من جزءين (تر)، وهو تحريف طور، أي الجبل، و(شيحا) من شيح، وهو النبات المعروف، فيكون المعنى (جبل الشيح). وتوجد روايات عدة حول اسم القرية، إحداها تعود إلى «شيحا جمال الدين»، وهو قائد عربي مسلم كان في جيش صلاح الدين، وعندما قتل طار رأسه من أعلى جبل المجاهد، وهبط حيث تقوم ترشيحا، فقال الناس «طار شيحا».

ذكريات لن تموت

«الإمارات اليوم» كان لها نصيب في أن ترى عروس الجليل وتزورها، وذلك من خلال جولة استمرت على مدار ساعات عدة، رافقنا فيها الحاج الثمانيني (أبوبسام) حميدة، الذي مازالت صور بيته وأرضه حاضرة في ذاكرته، لم تغب على مر السنين.

ويروي حميدة ذكرياته في قريته ترشيحا، قائلاً إن «ترشيحا كانت مركز الثوار، فرئيس الثوار اسمه أحمد علي إبراهيم، كان الثوار يسبقون الجيش الإنجليزي، ويخربون الشوارع التي يمر بها الإنجليز، وذات مرة أمسكوا بجندي إنجليزي، وجابوه إلى ترشيحا، كان اسمه جيمس، أمسكوه ورشقوه بالمياه».

ويضيف «كان الإنجليز عندما يحضرون إلى البلد تقول الناس (غيمت يا شباب)، ويختبئ الناس والثوار، ويخفون أسلحتهم».

وفيما يتعلق بالحياة اليومية في ترشيحا سابقاً، يقول «كل يوم خميس كانت بترشيحا سوق كبيرة يقبل عليها سكان من بنت جبيل والقرى المجاورة لها في جنوب لبنان، ويتسوقون فيها، كما كانوا يأتون من الأردن لبيع الدواب والجمال والحبوب والأقمشة وغيرها».

ويضيف «أما الأفراح الإسلامية فما كانت تختلف عن المسيحية، كلها (​​دربكة وزقفة)، وكان الفرق الوحيد كنيسة وشيخاً، وكانوا يجلسون مجموعة واحدة قبل العرس، يعجنون ويخبزون، وكل البلد تشارك بعضها بعضاً، وكانت النساء تردد الأغاني التراثية، مثل أم جورج، وأم موسى صبحي، التي كانت تدق العود وتغني، ولما تحضر يقولون (إجت لميا)».

ويتابع حميدة قوله «كانت سيدة اسمها (أم مصباح) تقف خلف العريس وتغني له، وكان الرجال يمشون أمامه، وكانت الأغاني تختلف من بلد إلى آخر، فمثلاً في ترشيحا يغنون: ترشيحا يا ركن الجبل ومزينة برجالها واللي يحاربنا نحاربه وبالسيف نقطع شاربه».

الحاج حميدة ليس وحده من لم تخنه ذاكرته، فقد التقت «الإمارات اليوم» بالمسن أبوزكي الهواري، وهو من السكان الأصليين لترشيحا، حيث يروي لنا ذكرياته فيها قائلاً: «كان يوجد مقهى لـ(الختيارية)، مثل مقهى أبوشريف، وكل فلسطيني يبلغ عمره 60 عاماً يتقاعد ويتردد على هذا المقهى، وكان يوجد أيضاً مقهى علي حمود، الذي يقع في أسفل كراج منزلنا».

ويضيف: «كنت أذهب أنا مع جدي إلى القهوة، ويوجد راديو كبير في البوفيه، والناس يجلسون يسمعون الأخبار أيام الحرب العالمية الثانية، حيث كنا نسمع أخباراً من برلين، وكان اسم المذيع يونس البحري، وفي سنة 1946- 1947 كانت محطة لفلسطين تذيع من رام الله».

حلم العودة

أما الحاج رشيد شريح، الذي يبلغ من العمر 98 عاماً، فمازال يحلم بالعودة إلى قريته الأصلية ترشيحا، على الرغم من أنه يعيش في مخيمات اللجوء في لبنان، أما بقية أفراد عائلته فيعيشون مشتتين داخل فلسطين، وكان قد هجّر من قريته في النكبة المشؤومة عام 1948، وعلى الرغم من تقدمه في السن، إلا أنه يحلم بالعودة إلى قريته ووطنه.

ويقول الحاج شريح: «صمدت ترشيحا أمام العصابات الصهيونية حتى شهر أكتوبر من عام 1948، عندها وبسبب الدفاع المستميت عن القرية من قبل المقاومين، قام الصهاينة بقصف القرية بالطائرات، الأمر الذي أدى إلى سقوط عدد كبير من الشهداء، وبدأت رحلة التشريد والتهجير من فلسطين إلى سورية».

وعن الحياة في مخيم الشتات يقول، إن «حياتنا أمر من الصبر، عشنا في المخيم عند وصولنا إلى لبنان في ازدحام شديد، حيث كنا 16 عائلة في (براكس) واحد، وتحملنا ذلك كله بهدف تنشئة أطفالنا على محبة فلسطين، والتمسك بها، والنضال من أجلها، فكان الجيل الذي نشأ أكثر منا حباً لفلسطين، وأكثر وطنية، فاليوم توفي معظم كبار السن الذين عاشوا في فلسطين، ولم تبق إلا الأجيال اللاحقة».

ويتابع الفلسطيني المهجر قوله: «ليت هناك مجال للعودة إلى فلسطين، فالناس التي ولدت في المخيم تتوق شوقاً إلى العودة، وتموت في سبيلها، فما بالك بنا نحن الذين ولدنا فيها، وعشنا شبابنا فيها بكرامتنا وعزتنا، وفي بيوتنا وعلى أرضنا، لكن هذا الأمر محسوم من عند الله عز وجل، ولا نملك إلا أن نتمنى أن يكون ذلك في الوقت الذي نعيش فيه، وليس في الجيل الذي يلينا والذي لن نعيشه».

مخططات مستمرة

بلغ عدد سكانها سنة 1945 م 3830 نسمة، وكان أعلى صف بمدرستها سنة 1943 م، الصف السابع. وتعتمد في زراعتها على الأمطار، وتشغل أشجار الزيتون أكبر مساحة بين الأشجار المثمرة، وتعتبر ثالثة قرى قضاء عكا غرساً للزيتون.

دمر الصهاينة معظم ترشيحا بالقنابل والمدافع، وهجرها أكثر سكانها، ومع ذلك بقي فيها عدد منهم، كان سنة 1949 م 639 نسمة، وفي عام 1961 بلغ السكان العرب في القرية 1150 نسمة. وقد أنشأ اليهود مستعمرة «معوناه» ملاصقة للقرية، ويطلق حالياً على الاثنين «معوناه ترشيحا».

تويتر