مسلسل يؤكد أن الدراما العربية بخير

«قلم حمرة».. جحيم ســــورية من زاوية تصوير جديدة

صورة

يبدو الحديث عن عمل لا يعرض في الفضائيات العربية الأكثر مشاهدة، صعب، خصوصاً في ظل الزخم الإنتاجي الكبير للدراما العربية المنتشرة في فضائيات عديدة، لكن الواجب المرتبط بتقديم حكاية تؤكد للمتابعين أن الدراما العربية بخير، هو الذي يجعل من المسلسل السوري «قلم حمرة»، لمخرجه حاتم علي، أن يكون أكبر مثال على ذلك.

نعم الدراما العربية بخير، إذا أردت أن تشاهد عملاً متكاملاً يحمل قصة بتوقيع الكاتبة يم مشهدي، ويؤدي دور البطولة فيه مجموعة من الفنانين السوريين، من بينهم سلافة معمار ورامي حنا وعابد فهد وأحمد الأحمد وكاريس بشار، وغيرهم من الوجوه التي يحمل كل واحد منها حكاية ترويها الشخصية الرئيسة في العمل (ورد)، المعتقلة في السجون السورية، تروي حكاياتهم كأنها تريد أن توصل الأسباب التي كانت نتيجتها ثورة شعب يطالب بكرامته وحريته، وكل هذه الحكايات مرتبطة بفئة الكتّاب والمثقفين والفنانين، وهم أكثر الفئات التي تسببت في شرخ كبير لدى معجبيها في مواقفها المتباينة تجاه الثورة السورية.

مشاهد

- «في أحلام الكل بيشوفوها، بس ولا مرة فكرنا انو ليه كل البشر بيشوفو نفس المنام يلي بتوقع فيه.. يلي بتهوي فيه.. وأنت عم تهوي بس بتفيق.. بتفيق تماماً، وبتحس انو منيح انا لساتني ع الأرض..

تماماً بس بدك أرض لتحسن توقف عليها، لأنو حتى بالمنام أنت ما بتحسن تطير».

«غالباً.. دائماً.. كلما كبرت كلما صغر حلمك، كل شي رح يكبر فيك وجهك، جسمك، عقلك..

إلا حلمك.. بيصير صغير، صغير كتير.. وبلحظة ما بيعود فيه فرق بين الحلم والكابوس».

- «هون.. وبس هون.. بتشتاق لكلمات بتكون مفكر بحياتك ما رح تشتاق الها.. بهالمكان ما بتضطر تستخدمها فبتشتاق لكلمة أنا آسف.. بتشتاق لتعتذر من حدا.. هون.. كيف وليش بدك تعتذر وأنت ما عم تعمل أي شي.. ولا شي.. لهيك بيجوز بتحب تستخدمها.. لانو هي من الكلمات القليلة يلي بتأكدلك أنك عايش وعم تشتغل بأي شي.. حتى لو بحالك.. عم تعمل شي صح غلط ما كتير مهم، هون بتفكر انو المهم تكون عم تشتغل وحتى النتيجة بتبطل مهمة».


«متر في متر»

حاتم علي استطاع أن ينقل تجربة إخراجية جديدة حتى عن طريقته المختلفة والمميزة دائماً، كأنه تأثر بالأعمال العالمية، لذلك مطلوب من المشاهد التدقيق جيداً، لأن الانتقال من غرفة «متر في متر» بمعتقل سوري، للحياة خارج المعتقل، من المفترض أن يكون عادياً، لكن مع حاتم علي أنت لا تنتقل من مشهد إلى مشهد فحسب، بل تنتقل من حوار معين داخل هذا المعتقل إلى حوار مختلف تماماً عن خارجه.

لم تنتهِ الحلقات بعد، والحديث عن العمل قبل نهايته له علاقة بالخوف، ربما من النهايات في الأعمال السورية، التي تستنزف المشاهد عاطفياً وحتى سياسياً، بشكل تنفيسي، وترى الحلول أخيراً ضمن معطيات تعرفها مسبقاً، فمسلسل «غزلان في غابة الذئاب» على سبيل المثال لا الحصر، الذي كتبه فؤاد حميره ومثلت فيه أمل عرفة خير مثال على هذا الخوف المرتبط بالنهايات، فدائماً يتم القبض على الرأس الفاسد والظالم، ودائماً يكون هو أقل درجة من الرأس الدكتاتور (الذي كان من الصعب حين وقت إنتاج العمل في عام 2006 المساس به)، لكنه اليوم وبعد ثلاث سنوات على الثورة السورية، التي لم تنته بعد، لم تعد هذه النهايات مقبولة، وقصة يم مشهدي لن تحتمل هكذا نهاية، وهذا المرجو، لذلك من المفيد الحديث عنه قبل نهايته، لأنه عمل يستحق أن يشاهد من الجميع، لما يحمله من معاني الحياة كلها، من الحب والكره والضمير، والأسف، والخيانة، والخوف، والأمومة، وكل ما يتعلق بالنفس البشرية من تساؤلات، وقصص قد تكون في كل منزل، تحتاج إلى الإفصاح عنها.

طريقة عرض الحكاية، هي بحد ذاتها حكاية، فحاتم علي استطاع أن ينقل تجربة اخراجية جديدة حتى على طريقته المختلفة والمميزة دائماً، كأنه تأثر قليلاً بالأعمال العالمية، لذلك مطلوب منك التدقيق جيداً وأنت تشاهد، لأن الانتقال من غرفة متر في متر في معتقل سوري، للحياة خارج المعتقل، من المفترض أن يكون عادياً، لكن مع حاتم علي أنت لا تنتقل من مشهد الى مشهد فحسب، بل تنتقل من حوار معين داخل هذا المعتقل الى حوار مختلف تماماً عن خارجه، قد يتخلل الحوار صور غرافيكية، وخيالات تطرحها (ورد) على نفسها، وتشارك المشاهد فيها، فقد تجدها من العصر الحجري ربما، أو راقصة شرقية، أو تراها وصلت الى الوهم بأن تكون في مطعم فاخر داخل زنزانتها.

العمل صعب للغاية، من الناحية الفنية وحتى النفسية، واستطاعت سلافة معمار، التي قدمت العديد من الأدوار العالقة في ذهن المشاهد، أن تتفوق أكثر وتبدع أكثر، فهي (ورد) كاتبة مسلسلات، متزوجة ولديها ابن اسمه بحر، ساخرة طوال الوقت، وصريحة الى أبعد الحدود، حتى في تقييم نفسها، فهي لم تتخاذل عندما طلبت من صديقها الكاتب (حازم) أن يرفض دعوة للعشاء لمسؤول في المخابرات السورية، دعا عدداً من الكتّاب والفنانين إلى منزله، وتؤكد له أنها لم تتلق الدعوة، فيواجهها أنها على الأقل ترضيهم في نهايات أعمالها، لتؤكد له «نحن في بلد في النهاية نشعر بأننا جميعنا نعمل لمصلحة المخابرات»، هذا الكاتب نفسه، الذي ينظر طوال الوقت عن الحب والحياة والحريات، لم يشهد في قضية ابنة صديقته، التي تحلم بأن تكون فنانة، وصادف وجودها في هذا الحفل، وهربت منه بعد أن وجدت أن الثمن سيكون جسدها للمسؤول صاحب دعوة العشاء ذاته، فتم حبسها، لأن زوجة المسؤول علمت بالقصة واتهمتها بسرقة مجوهراتها، والشرطة وجدت المجوهرات في منزلها مع أنها لم تسرقها، وقبل هذا كله عندما علمت والدتها بالأمر، قررت أن تهربها الى بيروت، لأنها تدرك ماهية الذي حدث، لكن الوقت لم يسعفها.

هذا جانب من حكايات كثيرة ويومية، ومثل هذه الحكايات المرتبطة بالظلم وانتهاك الكرامة كثيرة، وهي لا تختلف عن حكاية الشاب الجامعي الذي يؤلف الموسيقى، وعدم قدرته على العزف حتى في الشارع إلا بموافقة أمنية، كي يسترزق، ولا تختلف عن الشخصية الكردية في العمل، الذي اعتقل لاحتفاله بعيد النيروز، ولا تختلف عن قصة الشاب الشاذ، الذي رفضته عائلته وحتى صديقه نفسه مؤلف الموسيقى، ولا تختلف عن قصة الأستاذة الجامعية في معهد الفنون العانس، التي تتمنى أن يحبها أحد، قصص عادية وربما موجودة في مجتمعات كثيرة، لكن التعبير عنها في بلد هو حسب وصف إحدى الشخصيات في العمل «ملابس مدارسنا بتشبه بعض، ودروسنا بتشبه بعض، حتى الأسماء اللي حكمتنا بتشبه بعض»، لن يكون حينها عادياً.

كل هذه القصص في ناحية، والحوار في المعتقل بين «ورد» ومعتقلة تغيّر اسمها كل مرة، في ناحية أخرى، كل واحدة فيهن تشك في الأخرى أنها مبعوثة من الأمن، لكن ما جمع بينهما هو الحاجة إلى الكلام، لأن «ورد» تؤكد أن الصمت يقتل والكلام هو الذي يؤكد أنهما مازالتا على قيد الحياة، الحوار بينهما هو الحوار القائم حالياً، كلاهما خرجت للمطالبة بالحرية، (ورد) تؤكد أنها يومها خرجت لشراء «قلم حمرة» رغبة في التغيير، فيما تؤكد زميلتها في المعتقل أنها خرجت لنيل حريتها المرتبطة بنهج إسلامي، لكن الذي يربط بينهما فعلاً شعورهما بالظلم الواحد من نظام واحد، وكل واحدة منهما تخاف من نموذج حلم المسؤول القادم ليحكم بلدها، متفقتان أن التغيير هو الأساس، وأن كل ما يحدث حالياً هو نتاج عدم تغيير الأساس، في اشارة الى «داعش» وغيرها من الدخلاء على ثورتهم التي بنيت بحلم التغيير المبني على ضرورة انتهاء حكم الأبد، وهذا هو الأساس.

«قلم حمرة» لم يقدم عملاً استثنائياً فحسب، بل قدم خطاباً يفرق فيه بين الجرأة المطلوبة في المكان والزمان المناسبين، وجرأة الجسد، فأنت من الممكن أن يمر أمامك مشهد لو كان في مكان غير المعتقل لكنت ستتحسّس منه، وتتهم من يؤديه بجرأة جرحت مشاعرك، اضافة الى أنه قدم أدواراً استثنائية لشخصيات عرفها الجمهور بنمط معين، فعابد فهد يقدم شخصية خاصة جداً، مع أداء لا يشبه الثوب الذي يرتديه منذ خمس سنوات تقريباً، المتمثل بضابط أمن في المخابرات، أو بزوج مكلوم بسبب خيانة زوجته، دور يغطي على دوره في المسلسل اللبناني (لو)، وفي المقابل تجد أحمد الأحمد، المعروف بأدواره الكوميدية يقدم دور العاشق الولهان من طرف واحد، لكن الأكيد أن ثمة فنانة شابة اسمها دانة مارديني، سيكون لها المستقبل الفني المميز، لكمية الشخصيات المختلفة التي تقدمها وبحرفية، فدورها في «قلم حمرة» يختلف عن دورها في حلاوة الروح، وما يجمع بينهما قدرة تمثيلية مهمة وجديرة بالتقدير، كل هؤلاء يجتمعون في عمل من المتوقع أن تصل الى أن كل الشخصيات فيه وهمية، ومبنية في رأس معتقلة سياسية صادف أن تكون كاتبة وخيالها خصب، لكن الرسالة فيها هي الحكاية.

باختصار «قلم حمرة» ورغم القصص المحزنة فيه، المغلفة بشكل جميل خارجي، يشبه شعورك وأنت أمام علبة شوكولاتة، تريد أن تأكل منها دون أن تنتهي الكمية، عمل يجعلك تحزن كلما اقترب وقت نهايته.

تويتر