سفير الموشّح في أوروبا يغنّي «الربيع العربي» في بلاد الغرب

صفوت صبري: رفعت الأذان في كنيسة

صفوت صبري: ناي أبي قادني إلى عالم الموسيقى منذ طفولتي المبكرة. الإمارات اليوم

حين قرّر الفنان صفوت صبري الهجرة من حلب، لم يكن لديه سوى فنه لغة تعبير وجمال، حتى انه اصبح «سفير الموشح في اوروبا». وقد أحيا صبري، فنان الموشحات والقدود الحلبية والطرب الأصيل، اخيراً، حفلته الأخيرة في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، في سياق سلسلة حفلات متواصلة تشمل القارة الأوروبية، منتهجاً بعد قيام الثورة السورية طريقا فنيا جديدا في الغناء الثوري الملتزم، وقد كرس أعماله الأخيرة دعماً لثورات «الربيع العربي»، كما أنه رفع الأذان في اكبر كنائس بروكسل، قبل أن يبدأ حفلة في الغناء الصوفي أثرت في الجمهور البلجيكي كثيراً، لدرجة ان اقبالهم ازداد للتعرف الى تراث العرب.

في لقاء لـ«الإمارات اليوم»، قال سفير الموشحات عن نشأته في حلب الشهباء: «نشأت في عائلة تدرجت من فقر الحال بطفولتي، لتصل إلى مرتبة متوسطة الحال في أوائل مراهقتي. واذكر أنني في سن الرابعة أو الخامسة، وقد كنت العب بارض الديار، راقبت والدي وقد أمسك الناي ليعزف، ووجدتني اترك كل شيء بيدي واجلس امامه لاسمع الموسيقى بشكل كان يلفت نظرهأ. ومن هنا كانت البداية». واضاف «أما موهبة الصوت، فهي وراثية أباً عن جد في العائلة، واستطعنا تتبع الصوت الجميل في العائلة لنحو 300 سنة».

أولى حفلاته المبكرة أحياها وهو في التاسعة من عمره. أما في عمر الثانية عشرة فكانت الحفلة التي حفرت تفاصيلها في ذاكرته، كونها أول حفلة رسمية أدى فيها الغناء والتمثيل، وحاز «جائزة الطفل المتميز».

اهتمامه بالموشحات والقدود الحلبية نبع، كما قال، من البيئة الحلبية المحيطة به، فبعد مراحل الدراسة وانتهائه من الخدمة العسكرية، انتسب الى مدرسة الموشحات الحلبية في المدينة، وتتلمذ على يد كبار الأساتذة في العزف والأداء على الأصول القديمة والتراثية. واضاف عن تلك المرحلة «علمت ان هذه المدرسة تعطيك ما تصبو اليه من علم بالغناء على اصوله، علما انني كنت حافظاً جيدا، لكنني احببت ان اتعلم بطريقة اكاديميةأ، وقد كنا نحو 100 طالب، والكل مطرب برأي أستاذي في الغناء، الراحل عبدالقادر الحجار الذي قال عني شهادة أعتز بها حتى اليوم، انني كنت ثاني(أحن) صوت موجود في المعهد، وهذا كان يسعدني».

وبعدما تجاوز صبري العقود الثلاثة توغلاً في اغترابه، قال عن المدى الذي أثرت فيه مدينته حلب، وفي غنائه «أن تغني اغنية لا تعرف كيف ومتى حفظتها، فهذا يدل على انك تعيش بجو مشحون بالطرب. فأنا لا أذكر متى حفظت اكثر القدود، مثل القراصية وغيرها»، مضيفاً ان «حلب في الماضي الذي عشته فيها كانت أكثر تنوعا وكثافة فنية من الان، وتاريخيا هي مدينة اختلطت فيها الثقافات والحضارات، ومنها كان الشعراء، مثل المتنبي وأبوفراس الحمداني. أهذه البيئة المتنوعة ثقافيا خلقت منصة انطلاق في حلب للغناء، اذ وجد الشعر من يغنيه في حلب».

وأشار الى ان قصة الموسيقار محمد عبدالوهاب معروفة، ويفخر اهل حلب بسردها، فعندما زار الموسيقار حلب أول مرة في النصف الأول من القرن الماضي، وحين غنى اول يوم بوجود سبعة اشخاص، إذ كاد يرفض الغناء لعدم وجود جمهور، لكن صاحب المسرح اصر على ان يغني، فغنى وصفقوا له، لكن صعقته الدهشة في اليوم الثاني عندما وجد المسرح ممتلئاً بالناس، فغنى وهو سعيد بهذا الحضور. وسأل عن السر في ذلك، فقالوا له ان هؤلاء السبعة في الحفلة الأولى كانوا يمثلون احياء حلب، وبعد ان سمعوك اخبروا الناس ان يحضروا ويسمعوك. ولو كنت غير أهل لذلك، لما سمحوا لهم بالحضور حتى لا «يخرب» ذوقهم الفني.

واضاف سفير القدود الحلبية باعتزاز «هذه هي المدينة التي اتيت منها، وهو الأمر الذي أهّلني لان أغني أي لون من الغناء».

ورغم أنه ملحن، بالإضافة إلى أنه مطرب، إلا أن الفنان صفوت صبري يرفض تلحين أو غناء الدارج من الأغاني العربية الحديثة، معتبراً أنه حامل رسالة ويلتزم بها. فبالإضافة إلى الموشحات والقدود التي حمل مهمة غنائها في أوروبا، فإن التحول الوحيد في لونه الغنائي، حدث مع «الربيع العربي». وقال حول ذلك: «بعد ثلاثة عقود من التزامي غناء الموشحات والقدود وبعض القصائد الوطنية المغناة، جاءت الثورات العربية لتضعني أمام منعطف جديد في اللون الغنائي، وكانت الثورات التي طالما انتظرناها بمثابة أداة تفجير لكل الكلام الكامن في دواخلنا. وبدأت لأول مرة أكتب كلمات الأغاني بشكل جديد وبسيط، على نسق الأهزوجة الشعبية، وألحنها، ثم أغنيها ليلتقطها الجمهور من أول مرة بفرح وبهجة». وقال بفرح: «بعد ساعات من أي حفلة، أجدني منتشراً بغنائي على (يوتيوب) بسرعة مدهشة».

وعن فلسفته الفنية تحدث سفير الموشحات مستهلاً بمقولة للفيلسوف الصيني كونفوشيوس الذي يقول «إذا أردت أن تفهم شعباً، فاسمع موسيقاه». وهذه المقولة تجد مكانها في واقعة حقيقية شهدها الفنان صفوت صبري منتصف تسعينات القرن الماضي، في مدينة بروكسل، حيث أوضح أنه في عام ،1995 نشبت مشكلة بين بعض من أفراد الجالية العربية المغربية وبين أفراد من الشرطة البلجيكية، وكانت الأجواء ملبدة بعنصرية بغيضة من طرف بعض البلجيك، خصوصاً ان المشكلة بدأت باعتداء رجل امن بلجيكي وبصورة عنصرية على عجوز مغربي في بروكسل، وانتهت المشكلة حينها، لكن تداعياتها كانت حديث المدينة الأوروبية، فقام صبري، وبعد الاتصال بالمركز الثقافي العربي، بطلب إقامة حفل إنشاد صوفي في إحدى أكبر كنائس بروكسل. وقال: «كان الطلب غريباً ويحمل مفارقاته الخاصة، لكنني كنت مصراً على إقامة الحفل، وتحديدا الإنشاد الصوفي، لسببين، أولاً الصوفية لها جوهرها السلمي والمتناغم، ما يعطي رسالة للجمهور الأوروبي عن فلسفة التسامح، وثانيا ان هذا النوع من الفن منتشر في المغرب العربي، فأحببت تمثيل هذه الجغرافيا الغالية على قلبي بوصفي عربياً ومسلماً».

القصة لها تداعياتها، حسب صبري، «كانت الأمسية، برعاية من المركز الثقافي العربي، في إحدى اكبر الكنائس في بروكسل، وقد بدأت الحفل برفع الأذان كاملاً وبصوت مؤثر. ثم بدأنا حفلاً صوفيا بموسيقى عذبة مرافقة، وكان تفاعل الجمهور الأوروبي لا يوصف بين جدران تلك الكنيسة الجميلة». واضاف «بعد يومين من الحفل، اتصل بي أحد مسؤولي المركز الثقافي العربي في بلجيكا، ليخبرني ان معظم رواد الحفل من البلجيك توافدوا على مبنى المركز وقاموا بشراء نسخ كثيرة من الكتب التي تتحدث عن العرب والإسلام والتراث».

صفوت صبري، اليوم، يحمل جرح ثورته السورية، ويسافر بين المدن الأوروبية يحمل أغنياته مثل حكايا عن أوطان.

وفي بروكسل وبعد حفلة له، وقفت الناشطة والمعارضة السورية سهير الأتاسي على المسرح، وقالت للجمهور إنها لم تسمع غناءً ثورياً بمثل هذه الروعة من قبل. وبعد ذلك الحفل، حزم الفنان صبري حقيبته ولملم أحزانه ورتب أغنياته من جديد ليغنيها في باريس، وتستمر الحكاية.

تويتر