قدّمت عرضين ناجحين في الشارقة

فرقة ديار الراقص الفلسطينية.. «الفن كما ينبغي»

الفرقة الفلسطينية قدّمت عرضاً ناضجاً خلا من الخطابة والمباشرة. من المصدر

«أنا مواطن، أنا لاجئ، أنا محتل، أنا متفائل، أنا عربي، أنا مشتاق لأمي، أنا فكرة، أنا الروزنا» هذه ليست مجرد ارتجالات، بل إجابات فنية عن سؤال شباب فلسطينيين يستيقظون كل صباح ليجدوا أنفسهم في مواجهة السؤال نفسه «من أنا؟»، السؤال الذي لا يمكن التحايل عليه إلا برسالة فنية حقيقية تحمل من الحياد الذاتي والتحرر من آلام النفس أكثر مما تحمل من الانحياز، تماما كما فعل ويفعل شباب فرقة مسرح ديار الراقص الفلسطينية الذين قدموا عرضهم المميز «لوحات خائفة» مساء يومي الخميس والجمعة الماضيين على خشبة مسرح معهد الشارقة للفنون المسرحية وبدعوة من مجموعة مسارح الشارقة التي لا شك في أنها قطعت مشواراً طويلاً نحو التميز باختيارها واستضافتها لفرقة شبابية على قدر كبير من النضج والحرفية.

وتعرّف فرقة «ديار الراقص» نفسها على أنها تجَمّع شبابي فني ثقافي يهدف إلى التعبير عن الهوية الفلسطينية وقضايا وهموم الشباب الفلسطيني بطرق فنية إبداعية معاصرة، إذ تتألف الفرقة من عدد من الراقصين والراقصات، وممثلين وممثلات ضمن برنامج تدريبي مكثف للمزج ما بين الدراما والدبكة الشعبية والرقص المعاصر بقالب مسرحي تعبيري راقص. يؤمن مسرح ديار الراقص بأن الفلكلور الذي يعني حكاية الشعب أو المعرفة الشعبية المختزلة، والذي يضاف إلى البعد التوثيقي للقضية الفلسطينية والمعتمد على إحياء التراث والمسرح، يعد شكلاً من أشكال النضال والتحدي، كما يهدف المشروع الى الخروج عن المألوف في طرح القضايا الاجتماعية والسياسية، واستقطاب الشباب الفلسطيني بمحاولة دمجه في المجتمع، وإنماء الفكر التطوعي الهادف إلى تطوير المجتمع على أساس أهمية دور الشباب الفاعل في التنمية والعطاء.

صباح وجريدة

بين صباح مترقب وجريدة تصدر العناوين ذاتها كل صباح تتشكل أيام الإنسان العربي، فما بالنا بالإنسان الفلسطيني الذي ينتظر الأمل خلف كل باب وليس أقدر من الجرائد في اختزال الماضي والحاضر والمستقبل في جملة جاهزة ينتهي أثرها بنهاية السطر، بهذا تبدأ اللوحة الأولى من اللوحات الخائفة، وبتوظيف جيد لأدوات العرض الحديثة يصنع شباب الفرقة حائطاً من صفحات الجرائد في منتصف المسرح ثم تنطفئ الأضواء ويبدأ عرض وثائقي آخر لا تتجاوز مدته دقيقة واحدة، لكنه يمهد لخلفية الواقع الفلسطيني المعاش بين ركام المنازل ومآذن المساجد وصيحات الصبية في مواجهة الدبابات وأنّات العجائز، ثم أخيراً انطلاق الشباب إلى الساحات كأنهم يلهثون وراء شيء ضائع. ويتضح للمشاهد فحوى هذا الشيء الضائع من النص الذي يُروى في خلفية لوحة بعد أخرى، ففي لوحة الصباح والجريدة يأتي صوت من بعيد قائلاً: «هكذا الأرض، في الصبح تشد خيالك المتعب، تعزف لك سيمفونية العودة إلى المجهول، ترسم من تاريخك لوحة تعبر من عليها كل يوم»، وبالتالي لا يضيف تتابع الأيام إلى الشباب الفلسطيني إلا مزيداً من اليأس والرغبة في الخلاص. ويستمر التساؤل عن الجدوى والمصير، ولكن بصورة أكثر إنسانية وبساطة حين يقول بطل إحدى اللوحات: «لا أعلم كيف يستيقظ الناس مبتسمين؟ فأنا لا أرى في الصباح أي أحد امامي غير كأس القهوة، لا أرى، لا أتحدث، لا أسمع، ولا أجيب في الصباح»، ويأتي الجواب أيضاً في إطار إنساني أكثر واقعية «أنا إنسان ،لست محارباً ولا أستطيع القتال، أطرافي مكبلة، ولا منصت ولا مجيب، جئت لكي أرقص»، هنا تكمن جماليات العرض الفني لفرقة «ديار الراقص» الفلسطينية، إذ يتجه العرض في مسارات متوازية بين الواقع والتسامي، بين قسوة المواجهة على الأرض ورقّة التحليق في السماء كفكرة، أو ملامسة الأرض بخفة راقص.

أثر العود

حوارية رومانتيكية بين شاب وفتاة بإحدى اللوحات حول أثر العود «ربما لا يرى أحد أثر العود، لكن العود دائماً يعبث في التفاصيل»، هو في الحقيقة أثر الفنان الذي يعبث بتفاصيل الآخرين، جادة كانت أو هزلية، محولاً إياها إلى كون جديد أكثر قابلية للاحتمال، وفي تفاصيل الحياة على الأرض الفلسطينية التي دائماً ما تكمن فيها الآثار المؤلمة للنفس والروح، وهو ما عبر عنه مخرج العمل، محمد عواد باستخدام رموز بسيطة، لكنها من رحم القضية مثل، بطاقة الهوية بألوانها التي تميز فلسطينياً عن آخر، والمسافة الفاصلة بين فتاة وحبيبها يمارسان تفاصيل عشقهما بالإشارات ومن بعيد إلى بعيد، ثم الأكثر رمزيةً من ذلك، وهي السمة المميزة لعرض «لوحات خائفة» بصفة عامة، وهي تفصيلة احتماء النساء بالرجال، ثم احتماء الرجال بالنساء، إذ يظل الراقصون من الشباب والبنات، يختبئون خلف بعضهم بعضاً إلى أن يتقلص فضاء المسرح وتخفت الأضواء، وبالتالي لن يكون أمامهم سوى المواجهة. وتتمثل المواجهة أو الإصرار على المقاومة في المشهد الأخير من كل لوحة تقريباً، إذ يؤثر مصمم الرقصات، شادي قسيس صنع حالة مكتملة في كل لوحة بحيث تشمل بدايةً وتصعيداً أدائياً وموسيقياً وصل قمته عند تقديم مشهد القتل والدمار، ثم اتجه نحو الهدوء ولملمة الشمل غالباً بنهوض إحدى الراقصات التي تعمل على إيقاظ بقية الراقصين من سباتهم على المسرح. ولعلها لمسة موحية، لا أعرف هل صنعها مؤلف سيناريو العرض ومخرجه عن وعي أم لا، إذ إنه في كل مرة نجد امرأة هي التي تنهض في المقدمة وتسعى الى إيقاظ الرجال وإشعال الهمم.

مهارة

على الرغم من حداثة عمر فرقة مسرح «ديار الراقص» الفلسطينية التي مضى على تأسيسها عام تقريباً، إلا أن أعضاء الفرقة يتسمون، على اختلاف مواقعهم ومهامهم، بقدر كبير من الحرفية ونضج الرؤية، إذ نجا عرضهم من فخ الخطابية الواضحة، أو التورط في إسقاطات سياسية مباشرة، أو حتى سيطرة الأجواء البكائية، الذي تتورط فيه أعمال كثير من الشباب الفنانين الفلسطينيين، خصوصاً القادمين من الأرض المحتلة، أما عرض «لوحات خائفة»، وبعكس ما يمكن أن يوحي به العنوان، فيحمل رسالة بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، تتضح فيه معالم رؤية شاملة، سواء على المستوى الفني من حيث الاشتغال على رقصة تراثية فلسطينية، والاستعانة بموسيقى عبقرية لمارسيل خليفة وشربل روحانا وبعض المقطوعات العالمية، أو على المستوى الفكري من حيث طرح أسئلة إنسانية بالأساس وليست فلسطينية فقط، وأخيرا البحث عن حلول مسالمة وإبداعية ترتقي بصاحبها عالياً فوق أساليب وحلول أخرى.

تويتر