وقائع استقراء بولانسكي

مـذكّـرات تـونـي بلير و«الكاتب الشبح»

«الكاتب الشبح» حاضر في فيلم بولانسكي ومذكرات بلير. سيلبرتي ويندر

الحديث سيكون نصفه سياسياً، ونصفه الآخر سينمائياً، كما أن ما سنقع عليه هنا سيكون بمثابة تركيب فيلم على وقائع، والعكس صحيح ايضاً، وللدقة فإن كلمة «تركيب» لن تكون التوصيف الأصح، لفيلم له أيضاً أن يكون استقراء لمصير شخصية سياسية، لكن مهلاً، علينا أولاً التأكيد أن التطابق هنا لن يكون حرفياً بل مجازياً، لأنه لو كان حرفياً لتحدثنا عن اغتيال سياسي، وغير ذلك ما سيتضح تباعاً.

الحديث السينمائي سيكون عن فيلم رومان بولانسكي الأخير The Ghost Writer (الكاتب الشبح) الذي نعود إليه مجدداً للربط بينه وبين رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، والذي سيكون النصف السياسي من حديثنا، الأمر الذي قمنا به في ما مضى، ولنعود إليه مع خبر صدور مذكرات بلير بعنوان «رحلة»، وما رافق ذلك من إشكاليات، بدأت مع قيام دار النشر «راندوم هاوس» التي أصدرت الكتاب بتأجيل موعد توقيعه في مكتبة «واترسون» في بيكادلي لندن، خوفاً من تظاهرة حاشدة كان سينظمها مناهضو الحرب احتجاجاً على دور بلير في حربي العراق وأفغانستان، وصولاً إلى الاستقبال بالبيض والطماطم في دبلن لدى توقيعه الكتاب هناك، رغم أن بلير يعتبر نفسه صاحب الجهود الرئيسة في وقف الحرب الأهلية في ايرلندا، والاقتتال بين البروتستانت والكاثوليك كما يورد في مذكراته.

اعتراضات كبيرة ومتزايدة تصاحب بلير أينما مضى بمذكراته، لا بل إن تخصيص مردودها لمصلحة الجنود المصابين في حربي العراق وأفغانستان لم تعفِ الأطراف المناهضة له من وصفها بـ«أموال الدم»، وهناك الكثير من الانتقادات لكل ما قام ويقوم به رئيس الوزراء الأسبق هذا، بما في ذلك الدعوة إلى محاكمته كمجرم حرب، وغير ذلك مما لم يغير ادعاءه بأنه راعي السلام الأكبر في العالم، رغم أنه منتج حروب بامتياز، بحيث سيمنح «ميدالية السلام» في فيلادلفيا، الميدالية نفسها التي حصل عليه نيلسون مانديلا في ما مضى.

كل هذا التتبع لما يواجهه توني بلير هذه الأيام، أو التتبع لما ينعم به بلير أيضا، رغم أنف المعترضين ومن يجدون وجهة نظر مغايرة، بمن فيهم بولانسكي نفسه الذي قدم فيلماً يعيدنا إليه الآن صدور مذكرات بلير، كون الفيلم أولاً وأخيراً عن «كاتب شبح» المسمى الخاص بالكتّاب الذين يكتبون سير الزعماء والشخصيات الاعتبارية، ولتكون صفة الشبح صفة لصيقة به لأنه يعمل في الخفاء، ولا يظهر اسمه على الكتاب، بل يقوم بتأليفه بعد أن يزود بالمعلومات، أو نسخة أولية يقوم بكتابتها مباشرة صاحب المذكرات، وليقوم الكاتب الشبح بإعادة كتابتها والبحث عن نقاط القوة فيها وإبرازها وإضفاء درامية ما على الأحداث، والتنويع في السرد وما إلى هنالك، مما يجعل الكتاب مغرياً بالقراءة، وقادراً على تمرير ما يود صاحب المذكرات تمريره بيسر ومتعة.

في فيلم بولانسكي يكون الكاتب الشبح (ايوان ماكرغر) مرشحاً لكتابة السيرة الذاتية لآدام لانغ (بيرس بروسنان) رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ما يجعله على اتصال مباشر بحياته، ومقيماً في بيته الذي يكون للمفارقة في الولايات المتحدة الأميركية مثلما الحال مع «ميدالية السلام» التي سيتسلمها في فيلادلفيا، وكون أميركا هو البلد الوحيد الذي يشهد فيه حفاوة وترحيباً كبيرين، ولتبدأ أثناء ذلك فصول اتهام آدام لانغ بأنه مجرم حرب، وقد صار ملاحقاً بتهمة تورطه بعمليات تعذيب طالت «إرهابيين» وثمة موجات عارمة من الغضب في بريطانيا والعالم تطالب بمحاكمته.

لن نخوض في أحداث الفيلم التي سبق وقدمنا لها، لكن مقارنة مع ما نشاهده الآن من موجات المناهضة لبلير مع ما يحمله الفيلم سيكون مدهشاً حقيقة، لكن مع اغفال درامية الأحداث التي ستقودنا إلى كون آدام لانغ في فيلم بولانسكي بمثابة لغز بالنسبة للكاتب الشبح، سرعان ما سيكتشفه بالنهاية، والمتمثل بكون لانغ عميلاً لـ«سي آي إيه»، وليبقى هذا أيضاً لا شيء أمام بحثه عن الكيفية التي صار بها كذلك، ولتظهر الحقيقة من مكان آخر، لا علاقة للانغ به، وهنا ستحضر زوجته التي ستكون في النهاية هي المقرر لكل شيء، وهي من كانت رئيس الوزراء وليس لانغ، كما أنها هي من تكون عميلة الـ«سي آي إيه». شيء آخر لن نخوض به أيضاً ألا وهو الدراما القوية التي يقدمها صاحب «شينا تاون»، فهذا أمر مسلّم به، لكن يمكن الحديث عن أن بولانسكي لم يصنع سيناريو لهذا الفيلم، بل قام بتحويل رواية روبرت هاريس مباشرة دون نقلها ومعالجتها كسيناريو، الأمر الذي يستوقفنا كثيراً ويدفعنا للقول إن هكذا فعل لا يمكن أن يقوم به إلا بولانسكي.

الفيلم يستحق المشاهدة بقوة ليس لما أسلفنا فقط، إنه فيلم يؤكد أيضاً أن صاحب «سكين تحت الماء» مازال قادراً على تقديم فيلم استثنائي، ممتع ومشوق ويقول الكثير، بما يأسرنا أيضاً على طريقة فيلمه الشهير «شينا تاون».

تويتر