المتصل و المنفصل بين مسلسلين

«أسعد الوراق» يُوصـد «باب الحارة»

يستدعي المسلسل السوري «أسعد الوراق» التوقف أمام ظاهرة لها أن تقودنا إلى «باب الحارة»، وهو يعرض تحت اسم «مسك الختام»، فالجزء الخامس هو الأخير في هذه السلسلة التي استقطبت المشاهدين العرب، بما جعله واحداً من أشهر وأنجح الأعمال الدرامية العربية، وإلى شيء يدفع لقراءة الكثير من خلال هذه الحقيقة الفاقعة.

ولعل مقاربة «أسعد الوراق» الذي يعرض حالياً على شاشة تلفزيون دبي و«أورينت» وغيرها من قنوات، ووضع «باب الحارة» الذي يجتاح كل الشاشات العربية، سيشكل إضاءة لكلا العملين، وبما يجعلهما يقفان على طرفي نقيض تماماً، رغم احتمالهما تصنيفاً يتمثل في اعتبارهما ينتميان إلى مسلسلات البيئة الشامية، البيئة نفسها التي ستكون معقمة في «باب الحارة» ودرامية في «أسعد الوراق».

لكن أولاً وقبل الدخول في المقارنة، من الدقيق أن يتوقف «باب الحارة» عند هذا الجزء الذي يعرض حالياً، لا بل إن الحديث عن جزء سادس سيقوده إلى التخلي عن كل ما يجد سنداً له، فما عاد من الوارد أن يكون الصراع أيضاً متمثلاً بصراع السوريين مع الاحتلال الفرنسي وبالتالي الدخول في ما له أن يشكل سورية ما بعد الاحتلال، وكل الأفكار التحريرية والتقدمية التي شهدتها تلك المرحلة، والتي ستقف على طرف النقيض من العطارة والكتاتيب والقبضايات، طبعاً هذا يشمل الفترة نفسها التي يتناولها «باب الحارة»، لكن بما أنه بيئة افتراضية فنتازية فلن ندخل في محاكمة تاريخية للعمل الذي يصور دمشق كما لو أنها في صندوق زجاجي.

«أسعد الوراق» المأخوذ عن قصة للكاتب الراحل صدقي إسماعيل بعنوان «الله والفقير» هو مسلسل سبق أن عرض عام 1975 في التلفزيون السوري، وكان مسلسلاً من سبع حلقات من إخراج علاء الدين كوكش، وبطولة هاني الروماني ومنى واصف وملك سكر وآخرين، ولعل عودته بإخراج رشا شربتجي وبسيناريو لهوزان عكو، وبـ30 حلقة سيضعه أمام اختبار جديد له أن يكون ناجحاً في اجتيازه حتى الآن من خلال الحلقات التي شاهدناها إلى الآن، ولعل الرهان على استمرارية ذلك سيكون متأتياً من شخصية أسعد الوراق نفسها، التي يجسدها تيم حسن بأداء لافت، المحملة بالطيبة والفقر، مع الانفتاح على تغيرات تبقى على اتصال مع البيئة الاجتماعية للشخصية، وبالتالي فإن الانعطافة في مسار أحداث هذه الشخصية ستكون متأتية من انتفاضة الفقير، ومن منابع التمرد المكتسب والمخبأ في آن معاً، بما يتفاعل مع الشخصيات الأخرى المحملة بقدرتها على تعرضها لتغيرات درامية تبدو واضحة من الآن مفاتيحها، ولعل أحداث الحلقة الأولى نسجت أكثر من سبعة خيوط درامية لها أن تتصل وتنفصل وهي محملة بكل ما يجعلها تعيش صراعها على ثلاث مستويات اقتصادية واجتماعية وسياسية، مع انحياز كبير للتحرر سواء من الاحتلال الفرنسي أو من الظلم الاجتماعي، ولعل الطبقات ستكون جلية، الفقير والغني، البرجوازية الوطنية المتمثلة بالشخصية التي يقدمها أسعد فضة، والبرجوازية الصغيرة بالشخصية التي يقدمها فراس إبراهيم المتزوج بالابنة الوحيدة للثري وصاحب الماضي الوطني (أسعد فضة)، بينما تمضي جنباً إلى جنب قصة ذاك الرجل (طلحت حمدي) الذي يقتل امرأته الثانية حين يكتشف خيانتها له.

في ما تقدم ما ينبئ عن نذر درامية، ولعل الحلقة الأولى حملت الكثير من الأحداث، وأبقت أيضاً على لغز «الملثم» وما إلى هنالك من أحداث، على أن يتواصل ذلك في الحلقات المقبلة وألا يصاب الزخم الذي بدأ به بالوهن أو الإطالة التي تمليها مساحة الـ30 حلقة.

بالانتقال إلى «باب الحارة» ووضع «أسعد الوراق» إلى جانبه، سنكون وبعبور سريع على أجزائه الخمسة - سيكون الجزء الأول منها الأهم بالتأكيد- فإننا سنكون أمام منطقين متناقضين تماماً، يطفوان من البنية الفكرية لكلا العملين، وعلى شيء يجعل من «أسعد الوراق» على مسار درامي مشغول بكل ما لا يشغل «باب الحارة»، فالأول متحرك وتقدمي، بينما الثاني ثابت ورجعي، الأول شخصياته مفتوحة على التغيرات ضمن إملاءات محيطها وطبقتها وتطلعاتها، بينما الثاني يسعى إلى تقديم شخصيات منمطة مندرجة تحت صفة تتأتى كل أفعالها في امتثال لها فقط، ولا يمكن لها أن تتغير أو تنعطف إلا في ما ندر من شخصيات هي في الغالب ثانوية، فالقبضاي قبضاي، والخائن خائن، والجميع أصحاب نخوة لله بالله، ويمكن للنمس أن يكون مربط فرس «باب الحارة» كونه الثرثار والفهلوي، ولعل جميع الشخصيات معزولة عن طبقتها، بما يشبه أن تكون دمشق كما يقدمها «باب الحارة» (مدينة فاضلة) ولا يأتي الشر إلا ممن هم خارج الباب مع فتح هذا الباب على مصراعيه أمام الأمثال والحكم والعطارة، وكامل الفولكلور التزيني الذي يغطي على محاكاة أي واقع، مع تقديم الأخلاقيات بوصفها غطاء فطرياً مفروضاً بالوصاية وبالتوارث وراسخاً بقوة، فلا جوع ولا فقر لتتأثر الأخلاقيات، الجميع مشغولون بتعدد الزوجات وصراعات الكنات وردح النساء اللاتي يعشن بكامل فرحهن المجلل بالسواد، وفي جنة البيت الوارفة.

البنية المسطحة تستدعي دائماً تسطيحاً لكل شيء، اختزالاً وليس تكثيفاً، ولافتات كبرى، وسيندرج تحتها ما هب ودب وفي تطويع لكل شيء في خدمة صورة ترفيهية، ودغدغة للحنين الذي يعيشه العالم العربي بامتياز في غياب ما يمكن أن يسمى مستقبلاً، وفي حركة نكوص هائلة ستجعل من الكتاتيب بديلاً عن المدارس، ومحل الحلاقة هو المستشفى الأصيل، العطار أو الحلاق هو الطبيب المفتقد، بينما يأخذ ذاك العتال (حسن عويتي) في «أسعد الوراق» ابنته إلى الطبيب، ويسأل زوجته ألا تعطيها إلا الدواء الذي وصفه الطبيب وألا تعطيها شيئاً من العطارة أو ما شابه، ونحن نتكلم هنا عن عمل درامي مكتوب من أكثر من 35 سنة، بينما الآن فلا شفاء لنا إلا بالحجامة.

الأكثر مشاركة