ثالث أيام المهرجان.. الكاميرا في السجن تبحث عن الحرية

«الجزيرة الموصدة».. فيلم يفتح الباب على مصراعيه أمام التشويق.             آوت ناو

«عندما أصفر، أصفر مرتين» كان على متابعي الدورة الـ60 من مهرجان برلين السينمائي أن يرددوا مع المخرج الروماني فلورين سيربن، في أول عروض اليوم الثالث وأولى التجارب الروائية لهذا المخرج.

وهو فيلم مأهول بجمالياته الخاصة، وهو يأخذنا نحو سجن للأحداث في رومانيا ويدعنا نمضي مع مصير شاب لا يفصله عن إطلاق سراحه سوى 20 يوماً لنا أن نعيشها معه في تفاصيلها وعوالم هذا السجن.

نحن في هذا الفيلم أمام ممثلين هم أنفسهم السجناء الذي خضعوا لدورة تدريبية في التمثيل، واجتمعوا على تقديم جرعة واقعية كبيرة، تمضي جنباً إلى جنب مع قصة ذلك الشاب الذي يقف كل شيء ضد إطلاق سراحه.

«عندما أصفر، أصفر مرتين» سيحول عنوانه إلى مصير يمنح ذلك الشاب فرصة أن يصفر مرتين، حين يضع أمامنا كل حياته، أمه التي كانت تأخذه إلى ايطاليا ثم تعيده إلى رومانيا في كل مرة تتعرف فيها إلى عشيق جديد، أخوه الصغير الذي لا يريد أن يكون مصيره مشابهاً لمصيره وقد عادت أمه لتأخذه معها إلى ايطاليا، إضافة إلى ما يتعرض له في السجن من اضطهاد من قبل زملائه وهو يتلقى الصفعات لأنه صار «عبدا» وفق مصطلحات السجن ولا يستطيع أن يرد الإهانات لئلا تمدد فترة سجنه، دون أن يكون أبداً عاجزاً عن فعل ذلك.

وليعيش قصة حب خاطفة من طرف واحد مع متدربة على الشؤون الاجتماعية، كل ذلك سيجتمع على انتفاضته على كل شيء، وهو لا يسعى إلى أن ينتزع من أمه وعداً بألا تأخذ أخيه الصغير معها إلى ايطاليا وأن يشرب فنجان قهوة مع تلك المتدربة.

الفيلم مبني وفق معادل زمني واقعي، والنبل الذي يحمله ذاك الشاب ومصيره مقدم على شيء من التجاور والتصارع بين ما يتوق إليه وما يقف حائلاً بين الوصول إليه، فهو سيخطف تلك المتدربة، يشرب فنجان قهوة معها، ويسرق منها قبلة، ثم يقول لها «اطلبي لي فنجان قهوة آخر»، ونحن نراه يمضي مشياً على الأقدم على الطريق الذي يعيده إلى السجن، حيث يلقى القبض عليه ويعاد إلى حيث كان خلف القضبان.

فيلم فلورين سيربن يأتي من منطقة اشتباك الواقعي بالجمالي، دون موسيقى تصويرية عدا تلك الأغنية التي توضع أثناء تناول السجناء طعامهم، ولنا أن نعيش التفاصيل ومعها زمن الفيلم كما لو أنها تطالنا جميعاً وبقدر هائل من التميز.

مساحة كبيرة ستفصل بين الفيلم الروماني وجديد مخرج مثل مارتن سكورسيزي Shutter Island (الجزيرة الموصدة) ضمن عروض البرنامج الرسمي لبرلين (خارج المسابقة) سيكون الأخير محملاً بكل ما ينأى عن واقع نمتزج به في الأول، وسيفتح الباب على مصراعيه رغم ايصاد الجزيرة أمام التشويق والإثارة، لا بل إن الأمر سينتقل بنا من عالم إلى آخر مغاير تماماً مع ليورناردو دي كابريو وبيل كينغسلي ومارك رافلو.

سيضع فيلم «الجزيرة الموصدة» أمامنا كومة من الألغاز، التي ستكون مفخخة بشتى أنواع المفاجآت المتبدلة والمتغيرة في رهان على ما يفاجئنا في النهاية، فسكورسيزي في هذا الفيلم يخوض غمار التشويق من باب لم يطرقه من قبل، وسيحمل فيلمه مساحة لتهويمات جديدة على أفلامه، ولعلها المرة الأولى التي نجد في أفلامه عناقاً تتحول فيه المرأة إلى رماد كمثال.

نحن مع محقق (ليوناردو دي كابريو) في طريقه إلى «الجزيرة الموصدة» التي تكون بمثابة مصح عقلي للمجرمين والقتلة، والمحقق في طريقه لاكتشاف ما يرتكبه القائمون عليها. الأجواء أسطورية، المحقق مضطرب وعصبي طوال الوقت، مسكون بمجازر شهدها في الحرب العالمية الثانية، إنهم اليهود، بوصفهم ضحايا تلك الحرب الوحيدين، وربما من الأسهل أن تقديم مآسي الحرب من خلال ضحايا مصادق عليهم، ونحن نتكلم عند ذلك والفيلم يعرض للمرة الأولى في برلين.

سترمى قصص كثيرة أمام المحقق، ستظهر زوجته التي قتلت، والمرأة التي جاء للبحث في ملابسات اختفائها تكون قد قتلت أولادها الثلاثة، ولتجتمع هذه القصص وغيرها في النهاية وتكون جميعها من اختراع المحقق الذي لا يكون محققاً بل مريضاً في «الجزيرة الموصدة» يقوم باختراع القصص وانتحال شخصية المحقق للهروب مما أقدم عليه، بمعنى أن كل ما نشاهده في ثلاثة أرباع الفيلم يجري في ذهن المريض، مع إيقاعنا في حيرة أن يكون المحقق حقيقة هو المريض أم أن إدارة المصح تحاول إيهامه بذلك وتحويله إلى مريض كما سنعرف في النهاية.

ولعل سكورسيزي في هذا الفيلم يعود بنا إلى فيلم يشكل مفصلاً في تاريخ السينما ألا وهو «مقصورة الدكتور كاليغاري» ،1920 وغيره من أفلام نشاهد وقائعها فإذا بها تجري في ذهن الشخصية والحقيقة في مكان آخر.

ثالث أفلام البرنامج الرسمي في برلين كان دنماركياً وحمل عنوان Submarino وبتوقيع المخرج المعروف توماس فيينتربيرغ، ولتشكل كلمة «إدمان» مفتاح الفيلم ، كون الإدمانات التي يقدمها الفيلم ستشكل مصائر جميع الشخصيات، وعلى شيء من تكرر المآسي تحت وطأة الإدمان على الكحول والمخدرات.

فمع بداية الفيلم سنكون مع طفل صغير يتناوب أخواه العناية به، بينما الأم غارقة في الكحول، تبول في ثيابها، تدخن بينما ترضع طفلها، ولا تمتلك ثمن حليبه فيسرقه له أخواه، إلى أن يموت ذلك الرضيع الذي يسميه أخواه «مارتن» بعد بحثهما عن اسم له في دليل الهاتف وقيامهما بتعميده.

يموت من إهمالهما له حين يمضي في البكاء دون توقف، الشيء الذي سيسكنهما حتى النهاية، وليمضي الفيلم خلف مصيرهما.. الأخوان الأكبر والأصغر، الأول مدمن على الكحول والثاني على المخدرات، ولنكون في البداية مع الأخ الأكبر ونحن نتعرف إلى حياته، بينما يأتي مسار حياة الأخ الأصغر في خط درامي منفصل، وليتم التقاء الخطين على خراب حياة الأصغر تماماً الذي يكون لديه ابن صغير اسمه مارتن، الأمر الذي يجعله يمضي في رعايته جنباً إلى جنب مع إدمانه، ولينتهي به الأمر في السجن بعد تحوله إلى تاجر مخدرات، ومن ثم انتحاره، ولينتشل الأخ الأكبر نفسه من أجل النجاة بابن أخيه مارتن.

تلخيص سريع لفيلم فيينتربيرغ الحافل بالمصائر والمفارقات والمآسي، وليكون مندرجاً في النهاية تحت ما يمكن اعتباره تصويراً لمصائر الأطفال تحت وطأة الإدمان والمضي خلف توثيق الخراب الذي يلحقه بحياة الفرد الدنماركي.

تويتر