معطف سعودي ووجع عراقي وأحزان من الكويت تطوي دورة المهرجان الرابعة

محمود أبوالعباس.. قاد العمل إلى بر الأمان. تصوير: محمد منور

ارتفعت وتيرة البوح في الأيام الأخيرة من مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما الذي اختتم فعالياته أمس، بالعرض السعودي «المعطف» تأليف أمير الحسناوي وإخراج محمد الجفري وتمثيل محمد الجفري. وهو يستند على نص أدبي يحاول استثارة كوامن الإبداع ودفعها بقوة إلى السطح، وفق أشكال تحريضية عدة وفق مناخات مركبة لهموم وعذابات مركبة تعترض حياتنا. ولعل الغرابة في التجربة أننا نعيش معاناة إنسانية من خلال معطف يروي قصص بشر مر عليهم، وصولاً إلى الشخصية الأخيرة في العمل.

قبل «المعطف» كنا أمام بوح مختلف، حيث الوجع وصل أقصاه، من خلال حكايتين مختلفتين، حملت الأولى عنوان «ذاكرة الوجع والمسرّة» للمؤلف والمخرج فيصل جواد، الفائز بالجائزة الأولى في المسابقة التي أطلقها المهرجان لنصوص المونودراما، وجسدها على الخشبة محمود أبوالعباس. وجاءت القصة الثانية من الكويت ومن فرقة مسرح «أوال» التي قدمت قصة «نعيمة»، تأليف وإخراج إبراهيم بحر وتمثيل غادة الفيحاني.

ثمة فروق عدة يمكن الوقوف عندها بين البوحين، وبين التجربيتن السابقتين لعرض الختام، ففي «ذاكرة الوجع» نجلس على تخوم وطن ممزق، وحكايات من رحلة المأساة العراقية التي لا تنتهي، وفق رؤية بصرية مختزلة، بينما يضعنا عرض «نعيمة» في الوجع النسوي، والتناقضات التي تعيشها المرأة العربية بصورة عامة في مجتمع تحكمه الذكورة.

تحت رحمة رصاصة

تحتاج «ذاكرة الوجع والمسرّة» إلى وقفة متأنية غير هذه الإطلالة العجولة، خصوصاً أننا أمام عمل قدم مقترحاً جمالياً، وتجربة فيها كثير مما يمكن الوقوف عنده، اختلافاً واتفاقاً، وتماهياً مع هذه التجربة التي حاولت الخوض في تجليات مأساة إنسانية، يصعب الدخول إلى مقوماتها والخروج منها بسلام ويُسر، خصوصاً مع تشعبات المسألة العراقية التي يشبه الدخول إليها الدخول إلى حقل ألغام حقيقي.

يمكن الوقوف عند نص فيصل جواد، الذي وإن اتفق الجميع على خصوصيته الأدبية، وجماليته الفنية، إلا أن ثمة اتفاقاً موازياً على ثقل النص الذي فرض نفسه على التجربة، فكبرت وتيرة القول على حساب الفعل، وانتصرت الكلمة بشكل أو بآخر على المشهدية. وعلى الرغم من اشتغال المخرج المؤلف على التخفيف من سطوة القول في هذه التجربة، إلا أنها ظلت واضحة، وربما وصلنا في بعض اللحظات إلى أننا أمام خطبة أدبية.

ليس الاختلاف مع النص اختلافاً مع جودته وخصوصيته الواضحة، بل هو اختلاف مع قراءته البصرية التي كانت تحتاج إلى مزيد من الاشتغال على تشظيته، وتفتيت صلابته، بحيث يصير للممثل القدرة قليلاً على الاستكانة والهدوء، فكان أبوالعباس، الممثل والمسرحي الذي لحضوره على الخشبة نكهة خاصة، مجبراً على بذل جهد كبير للإلمام بحجم القول، وكان عليه إيجاد مفاتيح تعبيرية كثيرة، والحلول التي ضاعت في ضرورات مواصلة القول وتوصيل الكلمة. هل هي مشكلة المؤلف المخرج؟ ربما كان ذلك. هل هي مشكلة إعادة إنجاز كتابة بصريه جيدة، والموازاة بين حجم الفعل والقول؟ ربما كان ذلك أيضاً.

في جوانب النص، إضاءات مبدعة كثيرة يجب التوقف عندها، وإعطاؤها قدرها من التركيز، من دون أن تمر مرور الكرام. كانت السخرية من الحزن في الجزء الأول من العمل على درجة كبيرة من الجمال والخصوصية، وكان يمكن الوقوف عندها مطولاً، والاشتغال عليها بصرياً ومشهدياً، ولانبالغ إن قلنا إن العمل يمكنه أن يتشظى إلى أعمال عدة، خصوصاً أنه يحاول تلخيص الحزن العراقي الذي يصعب تلخصيه والإلمام به.

وكعادته، يبذل محمود أبوالعباس كل ما لديه وبأمانة فنية مدهشة، لنقل أي تجربة يعمل فيها إلى بر الأمان، وربما من حسن حظ العمل أنه اعتمد على ممثل بخبرة وذكاء أبوالعباس، وإلا كنا سنحاصر بخطابية خانقة.

لم تكن مهمة أبوالعباس سهلة في تلك التجريدية البصرية، وأمام ذلك المسرح الكبير والفضاء الواسع الذي وضع فيه العمل، وعلى الرغم من تنويعات قام بها أبوالعباس، إلا أننا لم نرتوِ منها، ولم نشعر بذلك الإشباع في لحظات درامية كثيرة. وفي نهاية العمل، كنا أمام إشباع سمعي، بمعنى أننا سمعنا القصة العبثية عن تراجيديا المواجع والمسرة، ولم نعشها بصرياً، ولم نعش فرجة مسرحية تتقاطع مع التفاصيل التي يزخر فيها العمل.

توليفة كلاسيكية

في تجربة «نعيمة» لمسرح «أوال» من الكويت، كنا على النقيض تماماً، خصوصاً أمام البذخ الأدواتي الفني الذي جعل العمل ثقيلاً وضيقاً. تقوم القصة على توليفة كلاسيكية شكلاً ومضومناً، أمام حكاية نعيمة التي تتكرر يومياً عند مئات النساء العربيات، المرأة التي تحاصرها الذكورة وسلطة الرجل على اختلاف أشكال هذا الرجل.

وعلى الرغم من محاولة هذه التجربة الانتصار لمصلحة المرأة، يظل هذا الانتصار ناقصاً، لأن حكاية العمل وضعتنا في قالب درامي حكائي، تناوله المسرح والتلفزيون كثيراً، ولم نعش قصة «جوانية»، بمعنى أننا بقينا ولفترة طويلة على سطح الحكاية التي كانت تروى أيضاً، بين الماضي والحاضر، الزواج، الخيانة، الأب المتسلّط، وغيرها من مثل هذه الموضوعات التي يمكننا الجزم بأن نظرة المرأة لها، ومشاعرها فيها، صارت لها أشكال أخرى، وأبعاد مختلفة عن التي رأيناها.

هي أيضاً رؤية المؤلف المخرج، وهي أيضاً إشكالية الإكثار من التعبيرات والدلالات المباشرة، وعلى الرغم من أن امؤلف والمخرج إبراهيم بحر وظّف كل مفردات الخشبة ولم يهمل وجودها، إلا أننا دائماً ننظر إلى مسرح مونودرامي حديث، نتجرد فيه من ثقل المشهدية، لنرى الممثل جيداً.

قامت الممثلة غادة الفيحاني بكل المطلوب منها، وبدت ممسكة بالخطة التي رسمها لها المخرج، وبدت واثقة من نفسها ومن حضورها المميز على الخشبة التي حاولت التعامل معها بندية واضحة.
تويتر