جورجيتا غيرليكيته: لا أريد نسخ الـواقع

جورجيتا غيرليكيته: دبي مدينة للأفكار المبدعة. تصوير: باتريك كاستيلو

مدخل محروس بنخلتين، يبدأ بثلاث درجات تفضي إلى البيت الذي اختارته الفنانة الليتوانية جورجيتا غيرلكيته ليكون مرسماً وصالة عرض لأعمالها الفنية، ومسكناً في منطقة أم سقيم في دبي، حيث تقيم منذ ثلاثة أشهر.

واجهة البيت زجاجية تتيح لضوء الشمس أن يسقط عبره إلى الصالة، حيث اللوحات معلقة على الجدران. ضوء الشمس يلعب مع ألوان اللوحات، وتتراقص الأشعة والظلال في تلك المساحة التي تتوسطها ثريا بتسعة مصابيح، تهبط مثل مظليين يوزعون الضوء في ليل القاعة.

درج إلى الأعلى، أبواب تفضي إلى غرف، وفي العمق باب خلفي يفضي إلى حديقة وبركة ماء مبلطة بخزف أزرق غامق، تحيط بها أشجار نخيل ونباتات أخرى قريبة من أرجوحة من حبال الكتان وطاولة وكراسي تصلح للاستغراق في التأمل.

وفي حوار لـ«الإمارات اليوم»، تقول جورجيتا «لا أريد نسخ الواقع في أعمالي الفنية». وترى أن «المرسم فضاء للعزلة الإبداعية». وتصف دبي التي أحبتها، فأقامت فيها، بأنها «مدينة الأفكار».

 عزلة «خط الصفر»

يمكن وصف بدء الانشغال بإنجاز عمل فني بأنه «خط الصفر»، أي الحالة الأولى التي تتخلق فيها اللوحة أو المنحوتة أو القصيدة أو القطعة الموسيقية، قبل اكتمالها. وعن تلك الحالة الطقوسية، تقول الفنانة جورجيتا غيرليكيته «قبل البدء في العمل الفني، أعيش لحظات تأمل عميقة، في عزلة إبداعية، حيث تفور العواطف وتتصاعد الأفكار في المخيلة ضمن طقس مبهج»، واصفة تلك اللحظة بأنها «حالة قصوى من الإحساس والتأمل، تصل بي إلى قمة النشوة الجمالية. وفي تلك اللحظة الميتافيزيقية، تتكثف المشاعر والتجارب والثقافات المتنوعة التي عايشتها، وكنت على تماس معها».

وعن المرسم وما الذي يعنيه للفنان، تقول جورجيتا «إنه فضاء للأفكار والإبداع والموسيقى والصمت والتأمل والعاطفة، مكان للعزلة الخلاقة».


في الحوار، تتحدث جورجيتا عن طفولتها وكل مرسم عملت فيه، وعن الثقافة في عائلتها، وعن التقنيات التي أنجزت فيها لوحاتها، ومعارضها الشخصية، ورؤيتها للإبداع ودوافعها للتعبير عبر الفن، والبحث في طبقات المعنى.

نشأت جورجيتا في بيت فني، إذ جدتها فنانة، ووالدها فنان متخصص في رسم الوجوه، وأمها ناقدة فنية كانت تعمل في المتحف الوطني في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، كما أن شقيقها درس الفن ويعمل مصمم مجوهرات.

تقول جورجيتا التي درست الفنون الجميلة في ليتوانيا وآيسلندا، وتخصصت في فن الغرافيك»، «نشأتي في وسط عائلة تشتغل بالفنون مكنتني من التعبير عن مشاعري»، واصفة بيت الفن الذي عاشت فيه بأن «اللوحات والمنحوتات موزعة في كل مكان داخله، إنه بيت الألوان». وتتذكر أيام طفولتها في مدينة فيلنيوس «كان شعراء وموسيقيون وروائيون وتشكيليون وفلاسفة يزورون والدي فرانسيشكوس في بيتنا، ويوقّعون على كتبهم وأعمالهم الإبداعية ويهدونها لنا».

الجدة

الفنانة التي نشرت مع شقيقها مصمم المجوهرات، داريوس غيرليكاس، كتاباً من إعدادهما عن جدتهما الفنانة الفطرية باترونيلي غارليكينه (1905-1979) تتذكرها وهي تنسج أعمالها خيطاً خيطاً، وكذلك وهي ترسم بعفوية ما تختزنه ذاكرتها، «كانت تنجز منسوجاتها الفنية بسرعة مذهلة، ومن مخيلتها مباشرة، من دون رسم تخطيطي. وفي الرسم بالألوان على القماش، كانت تعمل مباشرة بأنابيب الألوان على سطح اللوحة. وكانت تعتبر الرسم مماثلاً للتعليم، إذ لم تتلق تعليماً في المدارس».

وتضيف جورجيتا عن سيرة جدتها التي مرت بعدد من المآسي في حياتها في أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، «بدأت جدتي أعمال النسيج الفنية في ،1970 والرسم بالألوان وهي في الـ71 من عمرها. وخلال نحو خمس سنوات، أنجزت 10 أعمال منسوجة بأحجام كبيرة، علاوة على 60 لوحة».

عاشت جورجيتا في بيت العائلة في عاصمة ليتوانيا حتى بلوغها 21 عاما، تواصل سرد جانب من ذكرياتها، «أمي دونتا ماريونا كانت ناقدة فنية تعمل في متحف فيلنيوس، وكانت نقاشات عدة تدور حول المعارض التشكيلية، فالثقافة أساسية في حياة عائلتي». في هذا الجو الفني والإبداعي، ترعرعت جورجيتا في مدينة فيلنيوس التي يبلغ عمرها نحو 1000 عام.

في طفولتها، كان بيت العائلة أول مرسم لها، وكانت الجدران أول فضاء للرسم، لكنه مساحة كبيرة على طفلة تتلمس التعبير بالألوان، كما أن تلك الجدران ليست مخصصة للرسم، «في طفولتي، بدأت الرسم على جدران البيت، إلا أن أهلي تنبهوا لموهبتي مبكراً وأصبحوا يوفرون لي ما أحتاج من أوراق وألوان وقماش وأدوات للرسم».

الفنانة جورجيتا المتخصصة في فن الغرافيك، مولعة بالشعر وكتابته، وقد بدأت ذلك منذ طفولتها، لذلك تعيش الشعر، ففي أعمالها الفنية، في الحفر والطباعة على الحرير وكذلك الأعمال الرقمية، تنحو إلى الشعرية، إذ في كل عمل فني لها ثمة قصيدة بألوان متعددة، أو باللونين الأبيض والأسود ودرجاتهما. تقول «أحاول التعبير عن مشاعري وأفكاري وتأملاتي عبر الكلمات والألوان».

بيت العائلة في فيلنيوس كان بمثابة «ورشة إبداعية»، لوحات على الجدران وتماثيل وكتب وأدوات رسم وحوارات في الثقافة. ومن بيت العائلة، انتقلت جورجيتا إلى أكاديمية الفنون الجميلة في آيسلندا، لتدرس فن الغرافيك، من طباعة على الحجر وحفر وطباعة على الحرير، إضافة إلى دراسة تاريخ الفنون، لتنشغل في المرسم ساعات طويلة. وهناك كانت تعيش الفن والتأمل في الطبيعة، وتمارس الرسم في الهواء الطلق بين الحقول. وهناك أيضا شاهدت الظاهرة الغريبة التي تسمى أضواء الشمال القطبية، أو «الشفق القطبي».

وعن دوافعها في العمل الفني، تقول الفنانة التي تركز أعمالها على العالم الجواني للإنسان، وتبحث في طبقات المعنى، «إنه الحب والتعبير عن الذات ومشاركة الآخرين في الأفكار والأحلام والتأملات»، مؤكدة أن «المبدع جائع للمعرفة، ومشاركة الآخرين بهذه المعرفة والحب والتعبير، فتقنية الفن ليست هدفاً في حد ذاتها، لكن الحب هو شعلة الإبداع، وهو الذي يجعل الحياة محتملة وأكثر جمالاً».

دبي

زارت جورجيتا دبي في السادس من نوفمبر الماضي، أي منذ ثلاثة أشهر، وتجولت في معالمها، وأحبتها، لأنها كما تصفها «مدينة للأفكار والإبداع والجمال الذي يتجلى في كل يوم من حياة هذه المدينة»، مضيفة «دهشت كثيراً عندما قرأت قصائد للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عبر موقعه الإلكتروني، تتحدث عن الحب، وأعجبت كون حاكم دبي شاعراً يشجع الإبداع والتعليم، وهذا ما جعل دبي عظيمة تتحاور فيها ثقافات عدة». لذلك، قررت الإقامة في دبي، وبدأت التفاعل مع مكوناتها الثقافية.

الفنانة الليتوانية التي أقامت 12 معرضاً شخصياً، ومعارض جماعية عدة، تتطلع إلى تنظيم معرض في دبي، وتعبر عن رغبتها في مشاركة الناس، وتعليم الطلبة الفن التشكيلي. كما تبدي رغبتها في التعرف أكثر إلى الثقافة العربية، مشيرة إلى أن ذلك يعود إلى طفولتها، «حين كانت أمي وأبي يقرآن لي قصصاً، كان من بينها قصة عن عادات العرب وتقاليدهم في الصحراء، وصفة الكرم التي يتميزون بها. وكنت وأنا أصغي إلى القصة أتخيل الحياة العربية، والترحال في الصحراء».

تقنية

في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، أقامت جورجيتا سبعة أعوام، وفي تلك الفترة من 2003 حتى ،2006 أقامت معرضين للغرافيك، وتعلمت تقنية استخدام مواد طبيعية غير سامة في العمل الفني. وتتمثل هذه الطريقة بالدرجة الأولى في توظيف الماء والحبر ومواد أخرى بدرجات لونية متعددة. وانجزت أعمالا طباعية بالأبيض والأسود في هذا المجال الذي يعتمد مبدأ التصوير. كما تعلمت هناك تقنية «الغرافيك الرقمي» والوصول بها إلى التعبيرية، مشيرة إلى أن «تعدد وسائل الإبداع يثري تجربة الفنان، ما يمكنه من استكشاف مناطق تعبيرية وامكانات جديدة».

وكان مرسمها ضمن مجمع للفنانين، وهو مبنى قديم لمغسلة، يضم محترفات للرسم والنحت والغرافيك. تقول جورجيتا «كانت مرحلة كوبنهاغن مهمة لي، إذ كنا نتبادل الآراء، وكل أبواب المحترفات مفتوحة دائماً»، في إشارة إلى أن أبواب الحـوار وتبادل الخبرات بين الفنانين كانـت مفتوحة أيضاً.

عالم داخلي

تقوم رؤية جورجيتا الفنية على «انزياح الدلالة». وتؤكد «لا أريد نسخ الطبيعة، أو استنساخ الواقع الماثل أمام أعيننا». وتتضمن بعض أعمالها، خصوصا «الغرافيك الرقمي»، حواريات بين الألوان، إذ تتداخل الأشكال مكونة طبقات متفاوتة في العمق اللوني. وفي بعض الأعمال، تبدو زهرة أو ورقة نبات على مساحة القماش كاملة، كاشفة عن تفاصيلها الداخلية، ومتداخلة مع طبقات أخرى.

وتتطلب هذه اللوحات مزيداً من التأمل لتفكيك طبقات المعنى الجواني، أي الدلالات الداخلية المستترة في غموضها الخلاق. وتلامس الفنانة بذلك ثقافة صوفية، أو فلسفة «زن» التي تهدف إلى «كشف المطلق داخل المحدود». وتعتمد جورجيتا الحدس الشعري طريقاً إلى إبداع لوحاتها، كما لو أنها في معراج لوني، خصوصاً أنها مهتمة بالفلسفة والشعر.

وفي لوحات الحفر، تظهر حواريات بين التجريد والتجسيد «تعبيرا عن التداخل بين الخيال والواقع»، مشيرة إلى أن «الفن يثير مزيداً من الأسئلة، وهو ما يجعل الناس يبحثون أكثر ويتأملون أكثر جماليات الفن». وتوضح الفنانة التي تعيد تكوين العالم الداخلي والبيئة المحيطة ضمن منظور شعري؛ أن «الانزياح، أو إعادة التكوين، يعطي معاني جديدة للأشياء العادية».
تويتر