«جارا» مساحة منسية من الماضي
تعد السوق ملتقى للتجار وآلاف السياح والأردنيين. أ.ب
تقام كل يوم جمعة في شارع صغير بين البيوت القديمة وسط العاصمة الأردنية عمّان، في مكان بالكاد تراه العين، سوق صغيرة لبيع كل ما له صلة بالتراث والمصوغات واللوحات والرسوم، حتى يخيل للمرء أنها قطعة منسية من الماضي. يجتمع فيها الباعة، يتبادلون الأحاديث والهموم ويلعبون الشطرنج وغيرها من الألعاب الشعبية. إنها سوق «جارا» التي تقام في الهواء الطلق في شارع «الرينبو» في حي جبل عمّان، أحد أقدم أحياء عمان، وقد سكن فيه الملك طلال ونجله الملك حسين وسياسيون ودبلوماسيون عديدون. وتستقطب السوق آلاف الزوار والسياح الأجانب في يوم الإجازة الأسبوعي بين شهري مايو وأكتوبر من كل عام.
وفي هذا الموقع الذي يشبه «مغارة علي بابا»، تتخصص دكاكين صغيرة ترتفع وسط البسطات في بيع كل ما ينعش الذاكرة من تحف وحلي وميداليات وخرائط ومصوغات فضية ونحاسية ولوحات وصور فوتوغرافية، إضافة إلى المنتجات الطبيعية، كالعسل والعصائر والمخللات والصابون والورد والنبتات. وتساعد سوق «جارا» التي انطلقت في 2005 عشرات الفنانين وأصحاب الحرف اليدوية الذين لا يملك معظمهم محالاً تجارية، وحتى ربات المنازل، على عرض أعمالهم ومنتجاتهم المتنوّعة والترويج لها.
عند مدخل السوق، يقف حنا حنانيا، وهو من أقدم صاغة الفضة في الأردن، أمام طاولة كبيرة تحمل خواتم وقلائد وأساور وعقوداً فضية مليئة بالنقوش والأحجار، فيما التف حول طاولته سياح أجانب عديدون يستفسرون عن أسعار المعروضات التي تراوح بين 15 و250 ديناراً (20 و350 دولاراً). ويمتهن حنانيا، وهو من مأدبا (32 كلم جنوب عمّان)، الحرفة منذ .1959
ويقول الصائغ الذي صاغ خواتم كثيرة لأميرات أردنيات إن «البيع في سوق (جارا) متعة كبيرة، إنها سوق تختلف عن بقية الأسواق، والعمل فيها بهجة تسر القلب». وليست الأسعار متدنية في السوق، فتباع سجادة حرير إيرانية الصنع، طولها متر ونصف المتر وعرضها متر واحد، بسعر 3500 دينار (5000 دولار).
ويقول فواز معايعة، وهو يعرض 10 سجادات مختلفة الألوان والأحجام «نحن هنا بالدرجة الأولى من أجل الترويج لمحالنا التي تعد أقدم وأكبر محال بيع السجاد في المملكة». ويضيف معايعة الذي ورث المهنة أباً عن جد «في العام الماضي، لم نبع شيئاً هنا. أما اليوم، فقد بدأ الناس يقبلون على بضائعنا، والعمل يسير نحو الأحسن». ويتابع «السوق جميلة، وعلى الرغم من حداثتها، إلا أنها بدأت تأخذ مكانتها في المملكة، ويقبل عليها الناس من كل مكان، ناهيك عن السياح الأجانب».
وإلى الأعمال الفنية والتحف والأعمال اليدوية، تعرض كذلك أجهزة وآلات قديمة لا تعمل، مثل ساعات وهواتف وأسطوانات موسيقية ومخطوطات يدوية وصحف قديمة وطوابع وعملات وفوانيس وخناجر وفخاريات. ويعرض باعة سلعاً تبدو غريبة، مثل العصي التي تستخدم للاتكاء عليها في أثناء المشي، ومطاحن بُن قديمة وأنواط وميداليات عسكرية وعملات عليها صور الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
نقوش ومطرزات
في إحدى زوايا السوق، تبيع مادلين النشاشيبي منتجات تعدها ربات بيوت، كالشموع والمصنوعات الفخارية، وفرش عليها نقوش أردنية وصابون وزيت الزيتون، وقمصان قطنية كتبت عليها عبارات مثل «منسف ماما زاكي»، في إشارة إلى الأكلة الشعبية الأردنية.
وتفيد مادلين بأن مؤسسة نهر الأردن تساعد ربات البيوت من خلال تشجيعهن على إنتاج مثل هذه المواد في حين تبيعها لهن. وتقول « نعطي ربات البيوت المواد الأولية، وهن يصنعنها، ثم نبيعها، فيأخذن نسبة عن عملهن». وتوضح، بابتسامة عريضة، «أسعارنا مغرية، تبدأ من 75 قرشاً (دولار واحد) للشمع، ولغاية 16 ديناراً (23 دولاراً) للقميص القطني الواحد».
ويقول البائع العراقي حيدر عيسى، والذي يعرض مع زوجته الفلسطينية أمل كل أنواع المطرزات والشالات النجفية، «هذه السوق مصدر رزقنا ومتنفسنا الوحيد». ويضيف، وقد بدت خلفه لوحة مطرّزة تمثل عرساً فلسطينياً طولها متر ونصف المتر وتباع بـ90 ديناراً (130 دولاراً)، «لدينا بضاعة كثيرة مكدسة في محلنا. لا أحد يأتي إلى هناك، على العكس من هذا المكان الذي يعج بالناس منذ الصباح الباكر حتى ساعة متأخرة من الليل. العمل هنا أفضل».
ويعرض مايكل يوسف سلمان لوحات لفنانين أردنيين وفلسطينيين وعراقيين وأجانب، يبرز فيها الطابع الشرقي، مختلفة الأنواع والأحجام، ويقول إنها « لفنانين لا يملكون محالاً لعرض إبداعاتهم، نعرضها لهم هنا أملاً في بيعها ومساعدتهم».
وفي سوق «جارا» أيضاً، مسرح لإقامة حفلات غنائية وشعبية، في حين لا يتجاوز سعر التذكرة دينارين (ثلاثة دولارات). ويتضمن أيضا فسحة مخصصة للأطفال ومقهى شرقياً، ومطاعم صغيرة تبيع المأكولات الشعبية بأرخص الأسعار. ومع أن زيارة السوق ممتعة، إلا أن هذا لم يمنع العديد ممن يسكنون في محيطها من الاعتراض لدى امانة العاصمة، مطالبين بإغلاقها، لأنها تحوّل أحياءهم الهادئة إلى «جحيم لا يطاق»، كما يقولون.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news