«أم الفنانين»: الأحلام المؤجلة تركة عائلية ثقيلة لورثة الفنان الإماراتي. تصوير: يونس أميري

مريم سلطان: الفن الـحقيقي لا يُطعم خبزاً في الإمارات

يحيل واقع معيشي صعب تعيشه الفنانة الإماراتية مريم سلطان الملقبة بـ«أم الفنانين» إلى حقيقة أكثر شمولية رأت أنها تنسحب على المبدع الإماراتي بشكل عام اختزلتها في قولها «الفن الحقيقي لا يطعم خبزاً في الإمارات»، مضيفة «كنا ندخر من قوت يومنا، ومساحة اهتمامنا بأطفالنا كي نقدم أعمالاً تعالج قضايا مهمة في المجتمع، والآن أصبح كثيرون منا يعيشون واقعاً مأساوياً من أجل تأمين حياة كريمة لأسرهم»، مشيرة إلى أنها وجيلها من الرواد تغلبوا على عقبة الموارد المحدودة أمامهم بالجهد التطوعي، حيث كانت سلطان تقوم على مدار أيام قبل بدء التمارين المسرحية بحياكة الملابس اللازمة للعرض، بينما كان المخرجون يقومون بفنون الإضاءة والديكور.

 أحلام مؤجلة

تشير مريم سلطان بعد 33 عاماً من العطاء المسرحي إلى صورتها القديمة لتراها حفيدتها الصغيرة، حينما كانت واحدة من الفنانات اللائي تسند إليهن الأدوار النسائية الأولى على المسرح، مفتخرة بأن هناك نتاجاً فنياً زاخراً شاركت في إبداعه لاتزال تشهد عليه بعض أشرطة الفيديو القديمة، ومقالات صحافية كتبها نقاد في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

تعيش سلطان في منزلها القديم بمنطقة الغافية في الشارقة منذ 33عاماً، ضامة أبناءها وأحفادها الثمانية الذين يتقاسمون غرف المنزل الثلاث، بعد أن هجر الكثير من سكان المنطقة «الشعبية»، مؤجرين منازلهم لعمال آسيويين تتعايش معهم أم المسرحيين وأسرتها الكبيرة حاملة أعباء صحية ومعيشية كثيرة وحلماً لم يكتمل ببناء منزلها الخاص على أرض تمتلكها في منطقة الرحمانية، مسلّمة بمقولة إن «أحلام الفنانين تبقى دائماً تركة مرشحة لأن يحملها الورثة بما فيها الأحلام الصغيرة أيضاً».


ثلث قرن

«أم الفنانين» التي قدمت أول النماذج في المسرح المحلي للفتاة الإماراتية منذ أكثر من ثلث قرن، ترزح هذه الأيام تحت أوضاع نفسية صعبة قادتها إليها قيود مرض منعها من مزاولة العمل المسرحي، ووضع اقتصادي متردٍ، قنعت فيه بالسكن في منزل متهالك من ثلاث غرف يجمعها بأبنائها وأحفادها، لكنها رغم ذلك تجد عزاء في تذكر بعض من تلقوا خبراتهم المسرحية الأولى على يديها ليوم ميلادها، مفاجئين إياها بكعكة مصحوبة بترديدهم لأغنية عيد الميلاد في عامها الـ،60 أو تحية أحدهم لها عارضاً مقعده في قاعة عرض مسرحي لإراحتها مخاطباً إياها بلقب «أمي».

مريم التي قدّمت عام 1976 مسرحية «هارون الرشيد في القرن العشرين»، وتعد حاليا لإنجاز موسوعة تخلد أعمال المسرحيين في الدولة، لم تعد تلك الفتاة الإماراتية التي يختارها المخرجون للعب الأدوار الرئيسة بحكم عوامل كثيرة يتقدمها ظرفا السن والمرض، لكنها مازالت موجودة فنياً، رغم ذلك، من خلال أدوار درامية تقبل بعضها وفق قاعدة «شيء أفضل من لا شيء»، وتشترك في جانب آخر منها دعماً لجيل شاب مازال في سياق خطوته الدرامية الأولى، وهو ما أسلمها إلى الاشتراك في أحد الأفلام القصيرة المشاركة في مهرجان الخليج السينمائي فيلم «المفتاح» للمخرج الشاب أحمد الزين، بالإضافة إلى أربعة أفلام قصيرة أخرى.

وداعاً للخشبة

وتضيف «أم الفنانين» التي ودّعت خشبة المسرح منذ نحو خمس سنوات نزولاً على تعليمات الأطباء وقدرات جسد لم يعد قادراً على مجاراة حركات شابة لمواهب مسرحية صاعدة، «النزول من على خشبة المسرح للمرة الأخيرة كان قراراً صعباً قبل نحو خمس سنوات لظروف صحية جعلتني أفتقد الجهد المطلوب للوفاء بالتزاماتها، ما جعلني أكتفي بطلات في مسلسلات تلفزيونية بين الحين والآخر، منها «الداية» و«حظ يا نصيب» و«حاير طاير» و«ريح الشمال»، لاسيّما بعد أن تجدد جيل المسرح مسدلاً الستار تقريباً على جيل مضى، متيحاً للجيل الشاب فرصته الطبيعية في الحضور».

وحول أبرز الفوارق بين العلاقات بين الفنانين قديماً وحديثاً، تقول مريم «العمل المسرحي في بداياته إماراتياً كان يقوم بالأساس على الجهد التطوعي، لذلك كنا في كثير من الأحيان نعتمد على مواردنا الذاتية المحدودة للخروج بعمل جيد، ففي الوقت الذي كان يوكل إلي فريق المسرحية تدبير الاكسسوارات والملابس التي كنت أقوم بخياطتها على مدار أيام طويلة قبل بدء التمارين المسرحية، كان كثير من المخرجين يجمعون بين فنون الإضاءة والديكور، وهو ما أفرز تالياً مجموعة من المخرجين شديدي التمكن من أدواتهم على المسرح».

وتستطرد «عشق جيل الرواد للمسرح جعلهم لا يولون أهمية كبيرة لتأمين مستقبلهم المادي في زمن لم تكن قيمه شديدة المادية كتلك التي نعيشها الآن، لذلك كنت أصطحب ابني مصطفى وابنتي الكبرى أثناء تأديتي التمارين والعروض المسرحية، وكانوا في كثير من الأحيان يقومون باستذكار دروسهم يومياً خلف ستائر العرض، سعداء بما تقدمه أمهما رغم قسوة النظرة الاجتماعية حينها لاقتحام إماراتية هذا المجال».

فرص شحيحة

وفي ما يتعلق باجتذاب الأعمال الدرامية العديد من الطاقات الشابة أخيراً في ظل إنتاج غلب عليه الطابع التجاري من خلال شركات إنتاج حديثة، تقول مريم سلطان «لا شك في أن وجود كل هذا الكم من الممثلين الشباب يعد ظاهرة طيبة لم تعرفها الساحة الفنية المحلية على امتداد تاريخها، لكن الحكم عليهم يحتاج إلى إعطائهم فرصة كاملة في هذه المرحلة، وبعدها يتم تقييم أعمالهم.

ورغم مرور أكثر من 33 عاماً على صعودها كممثلة إماراتية خشبة المسرح ترى سلطان أن فرص المرأة الممثلة في الإمارات شحيحة مقارنة مع الرجل، مضيفة «من بين طاقم عمل مسرحي أو تلفزيوني كامل قد لا تجد سوى ممثلة مواطنة أو اثنتين، ما يفرض على الإماراتية المزيد من الاشتغال على أدواتها الفنية في ظل صراع قوي من المتوقع أن يزداد حدة خلال المرحلة المقبلة لمزيد من إثبات الوجود الفني، لاسيما أن معظم بنات الجيل الحالي لم ينضجن فنياً بعد».

ألبوم ذكريات

بعد أن تفرغ «أم الفنانين» مريم سلطان من عمل رسمي تؤديه في وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع في قسم الأرشيف الذي تسعى عبره إلى جمع ما قد يطويه النسيان من تجارب بدايات المسرح المحلي، تستسلم لإبحار آخر مع الماضي، لتتوقف حسب الإحالة الزمنية للصورة عند عقود مضت ترى أنها كانت تحمل «بركة اليد الواحدة بين أبناء الوسط الفني الذين كانوا أقرب إلى بعضهم بعضا من أفراد كثير من الأسر يجمعهم سقف واحد».

تقلّب سلطان ألبوم ذكرياتها لتقف عند ذكريات ثرية لأيام مضت، مبتسمة أحياناً، باكية في أحيان أخرى، قبل أن تستجمع رباطة جأش امرأة خبرت تقلبات أحوال خشبة المسرح الإماراتي صعوداً وهبوطاً مقررة «ما يرضيني أن جيلنا أخلص في رسالته الفنية من خلال ارتباط وثيق بآلام الناس وأحلامهم، وهي حقائق إذا غفلها البعض فإن موسوعة المسرح الإماراتي حتماً ستنصفهم من أجل الاحتفاظ بجزء من الحقيقة للأجيال المقبلة».

الأكثر مشاركة