المسرحي الشهير المجهول.. موليير يثير شغفا متجددا في بلد شكسبير

بعد جفاء طويل مع الجمهور في بلد شكسبير، عادت المسرحيات المستندة إلى نصوص موليير أخيراً لتستقطب متفرجين كثيرين من الإنجليز المتعطشين لكوميديا عابرة للزمن أبدع بكتابتها المؤلف المسرحي الفرنسي الذي يُحتفل السبت بالذكرى المئوية الرابعة لولادته.

في قاعة المسرح الوطني في لندن حيث اعتاد الجمهور على المشاهد الجدّية العميقة، علت ضحكات الحاضرين خلال مشهد يغطي فيه الممثل الأميركي دنيس أوهير بدور شخصية Tartuffe الشهيرة لموليير، خيانته من خلال محاكاة ساخرة لمشهد فروسية بريء أمام البطلة الأخرى أوليفيا وليامز.

وقال الممثل الأميركي لوكالة فرانس برس "الكوميديا يمكنها أن تعبر القرون إذا عرفنا ماذا نفعل".

وأشار إلى أن "جزءاً من الفكاهة كان قائماً على اللغة، فيما استند جزء آخر على البلاهة المطلقة... لكن ثمة أيضاً لحظات عظيمة من الشفقة والعاطفة تغني العمل كثيراً".

وأثبت نجاح هذا الإنتاج المسرحي المستند إلى قصة "Tartuffe" عام 2019 بأن موليير قادر على استقطاب جمهور واسع في بلد شكسبير... لكنّ الحال لم تكن كذلك على الدوام.

يقول نويل بيكوك من جامعة غلاسكو، وهو متخصص في أعمال موليير في البلدان الناطقة بالإنجليزية "غالبا ما كان عدد الحاضرين على خشبة المسرح يفوق أولئك الموجودين في الصالة".

وفي الثمانينيات، حذر ناقد في صحيفة "صنداي تايمز" من الفجوة بين فرنسا والمملكة المتحدة، متسائلا "كيف يمكننا عقد اتفاقات تجارة حرة مع بلد لا يمكنه تصدير أفضل كوميديا لديه؟".

لكنّ الوضع "انعكس تماماً" مذاك، بحسب بيكوك، إذ شهدت خشبات المسرح الإنجليزية عرض العشرات من أعمال موليير في السنوات الأخيرة.

- إسقاطات معاصرة -
فقد قُدّم من Tartuffe ("طرطوف") وحدها ثلاث نسخ في لندن بين عامي 2016 و 2019.
كما شاركت كيرا نايتلي في مسرحية "Le Misanthrope" ("عدو البشر") عام 2009، فيما ظهر ديفيد تينانت (المعروف بدوره في مسلسل "Doctor Who") في مسرحية "Don Juan" عام 2017.

ويعزو الأستاذ الجامعي هذا الاهتمام المتجدد إلى ترجمات جديدة يركز أصحابها على نقل روحية الكتابة أكثر من الحرص على حرفية نصوص موليير.

يقول دنيس أوهير "المسرحيات العظيمة تستمر لسبب ما"، مضيفا "طرطوف يمثل شخصية الوغد الفاسد المحتال. لكنه أيضاً الشخص الذي يفصح عن الأشياء، بحسب تقاليد الكوميديا الفرنسية. هو يتمرد على قواعد المجتمع واصطلاحاته".

حتى أن فرقة "رويال شكسبير كومباني" ذهبت إلى حد إسقاط نص موليير على قصة عائلة من أصل باكستاني في برمنغهام، حيث أظهر موضوع النفاق الديني قدرة كبيرة على محاكاة الواقع.

كما طرحت فرقة Exchange Theatre الفرنسية البريطانية في لندن، أخيراً عملاُ وثائقياُ عن اقتباسها المسرحي لـ"عدو البشر" وإسقاطها المعاصر داخل غرفة تحرير وسيلة إعلامية تواجه قضايا الكذب والنفاق.

ويستحضر مخرج المسرحية الفرنسي الموريتاني دافيد فورلون، مقطع المونولوج عن النفاق في "دون جوان" ("شخصية الرجل الصالح هي أفضل الشخصيات التي يمكن للمرء أن يلعبها")، كمثال للنص الذي يبقى صالحا إلى الأبد.

- "جوانب كثيرة" -
يقول فورلون "لقد تساءلت في الماضي عما إذا كانت تنشئتي الفرنسية وحدها تدفعني للإعجاب بموليير"، مضيفا "لكني لا أعتقد ذلك. هناك جوانب كثيرة للغاية في موليير، إنه غني ومتنوع للغاية، يبرع بنصوص الكوميديا والتراجيديا على السواء، وبالنصوص الهزلية بالمقدار عينه للمسرحيات الفلسفية. هو يخاطب الجميع".

وقد حققت اقتباسات مسرحية لأعمال موليير نجاحا أيضا في غير مكان حول العالم، بما يشمل ألمانيا وروسيا واليابان.

كما يشير كتاب عن موليير في العالم العربي إلى أن أعمالا للمسرحي الفرنسي الشهير تُعرض في بلدان عربية منذ عام 1847 على الأقل، وأنه أصبح "الأب الروحي للمسرح" في بلدان كثيرة.

وتؤكد أمينة المحفوظات في دار "كوميدي فرانسيز" المسرحية أغات سانجوان أن "مسرحيات موليير كانت مهمة للغاية في العالم. حتى أنه شكّل الأساس لبعض المسارح الوطنية التي كيّفت أعماله مع اللغة والثقافة المحلية".

في إنجلترا، واجه موليير منافسة شديدة مع شكسبير، رغم أن أعمال الكاتب المسرحي الفرنسي عبرت إلى الجانب الآخر من بحر المانش منذ ستينيات القرن السابع عشر.

لكن كان لموليير صدى أكبر في اسكتلندا، وفق بيكوك، إذ "كانت ميزته الرئيسة هي أنه لم يكن إنجليزيا".

ولا يزال اسم موليير يقترن منذ نحو 400 سنة بالـ"كوميدي فرانسيز" حتى بات بمثابة شفيعها، إلى درجة أن تسمية "دار موليير" تُطلق على المبنى الباريسي الشهير لأقدم فرقة مسرحية لا تزال ناشطة في العالم، ولو أن الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي لم يطأه يوماً.

داخل هذا الصرح المرموق، ثمة قطعة أثاث تحظى بالتبجيل تتمثل في كرسي خشبية بذراعين معروضة داخل خزانة زجاجية... فعلى هذا المقعد نازعَ جان باتيست بوكلان (وهو اسم موليير الأصلي) خلال عرض لمسرحيته الشهيرة "المريض الوهمي"، قبل أن يُسلم الروح لاحقاً في منزله.

وتشرح أمينة المحفوظات في الـ"كوميدي فرانسيز" أغات سانجوان لوكالة فرانس برس أن هذه الكرسي "هي نوعاً ما الشيء الوحيد الذي بقي" للمؤسسة من مسرحه.

وتضيف أن للمقعد الذي بقي الممثلون يستخدمونه حتى عام 1879 "حضوراً قوياً إلى حدّ أنه يكاد يوحي أن موليير لا يزال جالساً فيه".

وتتوزع في كل أرجاء المبنى تماثيل نصفية للكاتب المسرحي، يحرص الممثلون على لمسها أملاً في أن تأتيهم بالتوفيق وحُسن الطالع، وصور له أو لأعضاء من فرقته على غرار مدموازيل بوفال التي جسّدت شخصيات عدة من أبرزها زربينيت في مسرحية "مقالب سكابان".

- لا تمرّ سنة بدون موليير
وُلدت الـ"كوميدي فرانسيز" عام 1680، أي بعد سبع سنوات من وفاة الكاتب المسرحي، عندما قرر الملك لويس الرابع عشر الذي كان يوفر الحماية له، دمج فرقته بأخرى.

وتنقلت الفرقة بين أربع صالات مسرحية قبل أن تستقر عروضها اعتباراً من عام 1799 في قاعة ريشيليو بالقرب من قصر "باليه رويال"، أي على مقربة من المنزل الذي توفي فيه موليير.

وورد ذكر وفاة موليير في أهمّ وثيقة تملكها الـ"كوميدي فرانسيز" تُعرف بـ"سجلّ لاغرانج"، وهو مجموعة دفاتر تحمل اسم مساعد موليير لاغرانج (صاحب دور دوم جوان)، وفيها كان يوثّق أنشطة فرقة الكاتب.

وتحتفظ الدار في مكتبتها (ومتحفها) بهذا السجلّ وبقطع تذكارية أخرى، بينها قبّعة وساعة حُفر عليها اسم موليير.

لم يترك موليير ، أي أثر شخصي عنه، إذ لا مذكرات ولا مراسلات ولا حتى ملاحظات تلقي الضوء على شخصية أعظم مؤلف كوميدي غربي.

فابنته إسبري-مادلين التي نجت وحدها من أولاده الأربعة، أضاعت مخطوطاته، ولا تزال أول سيرة ذاتية عنه نُشرت عام 1705 بعنوان "حياة السيد موليير" مصدراً للأساطير حول موليير  والذي أصبح الكاتب المسرحي المفضل لدى الملك الفرنسي لويس الرابع عشر.

تويتر