مستشفى العقول

مما لا شك فيه أن العقل العربي يعاني، ولا أدري هل لايزال مريضاً أم أنّه بدأ يتماثل للشفاء، وإن كنت أميل للثانية أكثر، كوني متفائلة بالفطرة، وأرى الجوانب المضيئة فينا، حتى في أحلك الظروف.

ولعلّي محاطة أكثر من غيري بمحيط ثقافي متميز، منه ما اخترته طواعية، ومنه ما صنعته بنفسي، ومنه ما اختارني كضربة حظ، وهذه نعمة من رب العالمين.

للمرة الثالثة على التوالي، أتولى تقديم الحفل الختامي لتحدي القراءة العربي، الذي يهتم بأبنائنا في كل بقاع العالم، واحتكاكي بهم سبب من الأسباب القوية التي جعلتني أرى جيداً قدرة الطفل العربي على النجاح، وقد تساءلت دوماً بيني وبين نفسي عن مصير هذه المواهب في الظروف السيئة، والجواب ليس صعباً، فكل المآسي التي يعيشها الفرد العربي في أوطانه المختلفة، سببها الإهمال، والتهميش، والحرمان، والتربية الخاطئة، التي توجّه اهتماماته إلى النشاطات التدميرية، بدل النشاطات الإبداعية التي تفيده وتفيد مجتمعه.

احتضن التحدي هذه السنة أطفالاً قرأوا مئات الكتب، ولخصوها، وناقشوها واستوعبوها باللغة العربية، حتى وهم في بلدان أجنبية، فقد حضر مشاركون من السويد، والدنمارك، وإسبانيا، وإيطاليا، والصين، والهند، وأستراليا، وألمانيا، وفنلندا، ونيوزيلندا، وهولندا، وروسيا، وكندا، ولعبت عائلاتهم دوراً مهماً ليتقنوا اللغة العربية، إلى جانب لغات البلدان التي يقيمون فيها، ويطلعوا على ثقافات جذورهم، ويبقوا على تواصل مع أوطانهم وأهلهم فيها.

النور الذي رأيته في هذه المسابقة العظيمة، و التي يرعاها سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بحكمته، جعلني أصحح مقولة أدونيس حين قال “ المال العربي جاهل “فالصياغة الإيجابية للمقولة تكون أفضل حين نقول “ يجب على المال العربي أن يكون ذكيا” كبادرة لغوية ذكية أيضا لها مفعولها الخاص على المتلقي، فنحن نعرف سلفا أننا إداريون سيئون للمال، لكن هل من الصعب أن نتغير؟ في إجابة مدهشة للتلميذة، مريم محمود يوسف، عن سؤال عن محتوى كتاب إن أمكنها تأليفه قالت «سأؤلّف كتاباً عن التغيير، بدءاً من تغيير الذات، إلى تغيير العالم من حولنا.. أنا أؤمن بصناعة التغيير»، الصبية القادمة من مصر، نسفت تماماً قاعدة الاستسلام التي اعتمدها مئات الكتّاب والمثقفين العرب، وهم يوجهون خطاباتهم من على منابرهم لقرائهم، إنّها واحدة من الجيل الذي لم يُدجّن بعد، ويمكن الحفاظ على جذوة الأمل في داخله، لصنع مستقبل مختلف.

و هنا تنبع رؤياي للمستقبل العربي إذا ما تمسّك بأبنائه، وتركهم يصنعون مصائرهم بأنفسهم دون تدخلات سياسية، تشذب البراعم المزهرة فيهم.لقد لاحظتُ أيضاً، الإقبال الكبير للأطفال على القراءة، ودخول سباق ضخم من أجل إثبات الذات، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما على سهولة توجيه الطفل والاستثمار فيه، وإن المهمّة أسهل مما نتوقع، ملايين الأطفال العرب من أصقاع العالم كلها، شاركوا بحماس منقطع النظير للظفر بالمراكز الأولى في السباق، وهذا يكشف مدى تقصيرنا تجاه أبنائنا، وإن كان البعض سيفسر هذا الإقبال للقيمة المادية الكبيرة للجائزة، فإني أخالفه، لأن مرحلة التتويج سبقتها مراحل عديدة على مدى سنة بأكملها كلها تطوعية، ولم يصرف عليها فلس واحد، وقد شارك فيها نحو 87 ألف مشرف ومشرفة، مقدمين كل أنواع المساعدة للتلاميذ في المدارس بمواكبة قراءاتهم و تلخيصاتهم ومراجعاتهم، ألا ترون كم الرقم مخيف؟ كم المبادرة مبهرة؟ أنا شخصياً شعرت بأن قلبي توقف عن التوقف للحظات، من شدّة الدهشة والفرح.

صراحة لقد دمعت عيناي وأنا أرى دموع «البرنسيسة» المغربية ، لالّة مريم الصغيرة، مريم أمجون البنوت ذات التسع سنوات، وهي تستلم جائزتها، بعد أن تركت الجمهور فاغراً فاه حين قالت إن «القراءة مستشفى للعقول»، كيف لطفلة في هذا العمر أن تعرف أن العقول المريضة لا يشفيها غير القراءة؟

يمكنكم أن تتخيلوا معي جمهور المهنئين لمريم التي أصبح مستقبلها في يدها، وهي تتلقى هديتها المادية، لقد بدأت رحلتها بالعقل، وانتهت بتحقيق أمنيات عائلتها.. لقد قلبت الآية التي تقول إن المال يصنع مستقبل الأفراد، فأرباب المال يدركون أن العقل هو الذي يصنع المال، وهو الذي يضاعفه، وهو الذي يصنع الرفاهية بهذا المال، وهو الذي يمكنه أن يحوّل أرضاً إلى جنة أو إلى نار!

لقد فاز القراء الصغار بجوائزهم الكبيرة، لكن المنتصر الحقيقي في هذا التحدّي بالفعل هو القراءة، وإن كنت أتوقع دوماً ردوداً سلبية تدميرية تعليقاً على احتفاليات بهذا الحجم، لكني أتمنى أن أصيبكم بالفيروس الذي أصابني في هذه المدينة التي تتحقق فيها كل أنواع الأحلام، وأعتقد أن حلم «ترسيخ أفق القراءة» هو الأصعب على الإطلاق في قائمة الأحلام، لأن بناءه تطلّب جهداً كبيراً لترميم المعنويات المنهارة على مدى قرون مضت، وإعادة بنائها، ومعالجة شروخها، في مجتمعنا الذي أصبح يرفض القراءة متمسكاً بمعطيات غبية تكرّس للرداءة، من خلال أنظمة فاشلة.

لقد أصبحت كلمة «اقرأ» ذات المرجعية القرآنية في مجتمعاتنا الإسلامية، لا تعني شيئاً للمسلم كأسلوب مع أنها كلمة واضحة وغير قابلة للتأويل، وهي مفتاح العلم والمعرفة، حتى إن القرآن، بكل عظمته وأسراره الكونية والقصصية التاريخية، ظلّ خارج أُطر القراءة المعرفية، على مدى قرون، اكتفى فيها المسلمون بالإصغاء لما يلقى به عليهم من مختصرات من دون حتى التأكد من منابعها.

«اقرأ» أيضاً، بمعناها العميق، وأبعادها الفلكية، بقيت كأداة منسية في الظلال العربية، ولم تُستخدم لفك ألغاز ومستعصيات الحياة، حتى إن المنتبهين لأهميتها، بدأوا قراءة ما فاتهم، وهو كثير، لهذا بدأوا قراءة التراثيات، فتلخبط عليهم الزمن، والظروف، فما كان يجب أن يُقرأ في الماضي مواكبة للسلم الزمني، جاء متأخراً اليوم، فتناطحت أفكار الماضي مع أفكار اليوم، ما أنتج الصدمة التي نعيشها اليوم.

ما أريد قوله، إن أطفال «التحدّي» قدموا لي درساً حقيقياً حول مبدأ القراءة، فنحن أبناء اليوم، وقراءاتنا يجب أن ترتبط باليوم وعيننا على المستقبل، وإن كان هناك ما يتطلب القراءة فقط لفهم الحاضر فلا بأس، أمّا الانغماس في قراءة الماضي فلعمري إنه ضرب من الجنون، ذلك أن القراءة مستشفى لعلاج العقول، وقد تتحوّل لمستشفى لمجموع المجانين المعادين لحركة الزمن الطبيعية.

• أطفال التحدّي قدموا لي درساً حقيقياً حول مبدأ القراءة، فنحن أبناء اليوم، وقراءاتنا يجب أن ترتبط باليوم وعيننا على المستقبل.

تويتر