قصر الحصن.. بوابة التـاريخ لحاضر زاهر

التاريخ هو الهوية الحقيقية للأمم والشعوب، وهناك علامات فارقة في تاريخ الشعوب والدول لا يتشابه ما قبلها مع ما بعدها، كما في تاريخ الثاني من ديسمبر 1971،

الذي يمثل في حقيقته جوهر تاريخ دولة الإمارات، واللبنة الأساسية التي بنيت عليها أسس قيام الدولة وتطورها ونموها، واستناداً إلى أهمية هذا التاريخ، وإلى حقيقة أن «تاريخ الإمارات المشرق لا يقل أهمية عن حاضرها الزاهي»، جاءت مبادرة «1971»، التي أطلقها سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، بهدف الإسهام في توثيق تاريخ الدولة في جميع المجالات. واستلهاماً لهذه المبادرة المهمة، تأتي هذه الصفحة الأسبوعية التي تقدمها «الإمارات اليوم»، بالتعاون مع «الأرشيف الوطني»، التابع لوزارة شؤون الرئاسة، للتعريف بشكل الحياة في الإمارات قبل الاتحاد، وخلال بداياته الأولى، والجهد الكبير الذي بذله الآباء المؤسسون للدولة من أجل قيامها.

في صباح أحد الأيام من عام 1761 كان الشيخ ذياب بن عيسى، شيخ قبيلة بني ياس، على رأس فريق من رجاله الصيادين يعتلون صهوات جيادهم والجمال، فإذا بهم يلحظون غزالاً، ما لبث، بعد مطاردة قصيرة، أن اختفى أثره وسط طبقات الضباب الآتي من البحر، وما إن انقشع الضباب حتى عاد الغزال للظهور، وسط دهشة الشيخ ومرافقيه، وقف الغزال يشرب من بركة ماء أمامه. في تلك اللحظة أدرك الشيخ ذياب بحسه الفطري أن مستقبل شعبه يكمن في تلك البقعة، ومن هذه الواقعة اكتسبت أبوظبي اسمها. وخلال تلك السنة انتقلت 20 عائلة من قبيلة البوفلاح من مكان إقامتها الصحراوي في واحة ليوا إلى الموقع الجديد. وقرر الشيخ بناء برج مراقبة لحماية مصدر المياه من الدخلاء، وبدأ السكان بالحضور للإقامة في هذه المنطقة حول برج المراقبة، ليشكلوا نواة أبوظبي.

بوابات وزخارف

إضافة إلى ما يمثله قصر الحصن من بعد تاريخي وسياسي وتراثي، يعد قطعة معمارية فنية متميزة تدل على طرز عمارة الحصون والقلاع في منطقة الخليج عموماً. ويضم قصر الحصن العديد من البوابات الخارجية والداخلية وتسمى البوابة محلياً (الدروازة) وجميعها مزخرفة بزخارف ذات طابع محلي، كما تضم كل غرف القصر وجدرانه العديد من النوافذ المستطيلة أو مربعة الشكل إضافة إلى الكوى الصغيرة والمتوسطة، خصوصاً الكوى المقوسة التي تعلو النوافذ أحياناً، كما دعمت إحدى الغرف بركيزة تشبه جذع النخلة. وزخرف السقف بأشكال مروحية تماشياً مع الركيزة الوسطية بالغرفة. بينما يربط بين أبراج القصر وغرفه ومجالسه العديد من الممرات والأروقة.

الشكل الأصلي

من المعتاد في المباني التاريخية أن يكون المبنى الذي يقع في الداخل هو الأقدم، ولكن قصر الحصن يمثل إشكالية مختلفة، فالمبنى الداخلي يرجع إلى الثمانينات من القرن الماضي، بينما يرجع المبنى الخارجي المحيط بالمكان إلى الأربعينات. أما من حيث الخامات المستخدمة في البناء، فاستخدم عمال البناء في كل مرحلة من مراحل أعمال التوسعة التي نفذت خلال القرنين الـ18 والـ19، الأحجار المرجانية والبحرية التي جمعوها من قاع الخليج والشعاب المرجانية. وثبتت الأحجار بواسطة خليط مصنوع من المرجان المطحون والأصداف المكسرة. وسيسهم مشروع الترميم في إعادة إظهار الشكل الأصلي للمبنى بعد إزالة الطبقات التي تغطيه.

ومن أبرز المظاهر البارعة التي يتميز بها البناء هو البارجيل، وهو نظام التكييف والتهوية التقليدي والفعال، الذي يعد من أقدم الأساليب المتبعة لهذا الغرض. ويتكون النظام من أقواس متراجعة في الجدران الخارجية توجه النسائم البحرية من الخارج إلى داخل الغرف عن طريق ممرات ضيقة خاصة.

للإطلاع على صور تاريخية، يرجى الضغط على هذا الرابط.

منذ بنائه، اكتسب قصر الحصن أهمية كبيرة، حيث صار مقراً لحاكم أبوظبي منذ قرب نهاية القرن الـ18، ومقراً للحاكم وحصناً للدفاع، وتميز ببنائه الحجري بين الأكواخ التي يسكنها القرويون والمبنية من سعف النخيل وسط مساحة فسيحة من رمال الصحراء. وسيطر الحصن على مدخل جزيرة أبوظبي بموقعه المشرف والبارز من جهة البحر، وحمى المقر بأكمله، واتخذ لفترة طويلة بمثابة علامة معهودة للسفن المسافرة عبر الساحل.

ولم يكن قصر الحصن الذي عرف في الوثائق البريطانية بأسماء عدة مثل القلعة، والحصن، وقصر الحاكم، ودار الحكومة، على الهيئة نفسها منذ إنشائه، فقد شهد مراحل متعددة من البناء والتطور عبر سنوات طويلة متتالية، فخلال فترة حكم الشيخ شخبوط بن ذياب حاكم أبوظبي (1793 – 1816)، بدأ مبنى قصر الحصن يأخذ الهيئة التي يبدو عليها اليوم، حيث شهد المبنى تشييد برجين آخرين، بالإضافة إلى جدار يصل بينها ليتحول في النهاية إلى صرح منيع. وفي هذه الفترة، نقل الشيخ شخبوط مقر الحكم من ليوا إلى جزيرة أبوظبي، واستخدم الحصن ليكون مقر الحكومة والقيادة العسكرية ومكان الإقامة الخاص به.

ووفقاً للمعلومات التاريخية المتناقلة شفهياً عبر الأجيال، أجرى الشيخ سعيد بن طحنون حاكم أبوظبي (1845-1855) أعمال توسعة وتطوير إضافية داخل الحصن عام 1850. وتمت إضافة رئيسة أخرى عام 1939 خلال فترة حكم الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان (1928- 1966) وتُعد هذه الإضافة المرحلة الثانية من بناء الحصن وكانت ما بين عامي 1940 و1941، وبعد اكتشاف النفط في المنطقة في نحو 1960 – 1961 بدأ الشيخ شخبوط بن سلطان يستقبل ضيوفاً ومستشارين مهمين لذا تطلب الأمر مكاناً مخصصاً للاجتماعات أو (المجلس) مع مساحة مخصصة لمكتب تتم فيه إدارة الأعمال ولذلك تمت إعادة بناء الحصن القديم وخصص لهذا الغرض، بينما استخدمت العائلة أجنحة الحصن الجديدة. وفي بدايات خمسينات القرن الماضي، وكجزء من أعمال التجديد التي خضع لها الحصن، أضاف الشيخ شخبوط الأقواس المزخرفة في القسم الخارجي من قصر الحصن.

ومع تولي المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حكم أبوظبي 1966، حوّل المبنى إلى القصر بصورته التي يعرف بها اليوم. فبعد أن تولى الشيخ زايد الحكم في أبوظبي تم تحويل أحد المنازل ليصبح مكتبه الخاص، فيما استخدم منزل آخر كمقر لمركز الوثائق والبحوث الذي أُنشأ في 1968، والمعروف اليوم بـ«الأرشيف الوطني»، وبعد اكتمال أعمال الترميم الأخيرة التي جرت خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي، شغل المركز كل الغرف والأقسام التي يتكون منها قصر الحصن. ولم يستمر استخدام المبنى بعد ذلك كمقر إقامة للحكام، بل تحول إلى متحف ومعرض لمجموعات أثرية مرتبطة بأبوظبي ومنطقة الخليج العربي. كما أمر المغفور له الشيخ زايد ببناء مقر المجلس الاستشاري الوطني خارج جدران القصر، وشهد هذا المقر انعقاد الاجتماعات التي ناقشت اتحاد الدولة عام 1971. ويخضع قصر الحصن حالياً لمشروع متكامل للتطوير والترميم والصيانة وفق أعلى المعايير الدولية وأفضل الممارسات المعترف بها لإدارة مواقع التراث العالمي، بإشراف فريق يتضمن عدداً من أبرز المؤرخين والمهندسين المعماريين وخبراء الترميم، ويتضمن مشروع الترميم إزالة الطبقة البيضاء السميكة المكونة من الجبس والإسمنت التي أضيفت إلى جدران القصر في ثمانينات القرن الماضي، لإبراز الأحجار المرجانية والبحرية التي كانت من أهم مواد البناء التي كان يستخدمها الإماراتيون في الماضي، وتسعى أعمال الترميم إلى منع الرطوبة من الوصول إلى سطح الحجر المرجاني الذي يقع تحت الطبقة البيضاء التي أضيفت قبل سنوات، خصوصاً أن احتباس الرطوبة على سطح هذه الأحجار سيؤدي إلى تآكلها ويتسبب في آثار ضارة ومؤذية على بنية المبنى التاريخي، حيث تتسبب الطبقات الحديثة في خنق البنية التقليدية التي تتكون منها الجدران التاريخية. كما يتعرض المبنى منذ ذلك الوقت لتكييف داخلي يبرد المبنى إلى 24 درجة مئوية. ويسهم هذا المزيج من البرودة الداخلية والحرارة الخارجية في تشكيل طبقات تكاثف محتبسة داخل الجدران وعلى سطوح الحجر المرجاني.

أرقام وأحداث

1855 - 1909

شهدت الفترة التي أمضاها الشيخ زايد بن خليفة في الحكم، الذي عرف أيضاً بزايد الأول أو الكبير، من 1855 - 1909، بداية نشأة المجتمع الذي كان قصر الحصن مركزه الرئيس.

300

في عام 1939 اتفق الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان (1928 – 1966) مع البريطانيين بشأن امتيازات التنقيب عن النفط، وتلقى 300 ألف روبية كدفعة أولى، واستخدم تلك الأموال في بناء قصر أيقوني أحاط بالقلعة الأصلية.

5

مر بناء قصر الحصن عبر حقب متعددة بمراحل عدة، تغيرت فيها ملامحه، وشهد الكثير من الإضافات والتغيرات ثم الترميمات، ويرى المتخصصون أن هذه المراحل تنقسم إلى خمس مراحل رئيسة، آخرها مرحلة الترميمات التي بدأت في 1985 ومستمرة.

63

شهدت الدورة الأولى من مهرجان قصر الحصن زيارة 18 ألف زائر، وازداد العدد إلى 63 ألف زائر في الدورة الثانية، ومن المتوقع أن يشهد المهرجان هذا العام زيادة في عدد الزوّار ليصل إلى 100 ألف.

آثار مفقودة

أكّد مختصون وجود آثار تاريخية مفقودة تحت الأرض، في ساحة القصر، في حين حدّدت مسوحات «الرادار الأرضي» في الموقع أساسات مباني القصر التي شهدت سابقاً اجتماعات مهمة ناقشت عمليات التنقيب عن النفط في أراضي الإمارة.

وأخذ خبراء الترميم عينات من مواد البناء المستخدمة في إنشاء الحصن لدراستها كيميائياً واستخدامها في أعمال الترميم وتحديد الحقب الزمنية لإنشائها.

يشار إلى أن قصر الحصن يخضع لمشروع متكامل للتطوير والترميم والصيانة وفقاً لأعلى المعايير الدولية، وأفضل الممارسات المعترف بها لإدارة مواقع التراث العالمي، بإشراف فريق يتضمن عدداً من أبرز المؤرخين والمهندسين المعماريين وخبراء الترميم.

«مهرجان قصر الحصن»

تقديراً لمكانته رمزاً لنشأة أبوظبي، ومثالاً للشموخ والإباء، وأيقونة تاريخية تمثل الثقافة الإماراتية وتقاليدها العريقة، أطلقت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة في فبراير 2013 «مهرجان قصر الحصن» احتفاء بمرور أكثر من 250 سنة على إنشاء قصر الحصن، ليمثل المهرجان حدثاً سنوياً يقام في ساحة المبنى التاريخي الكبير لتعريف الجمهور بتاريخ عريق لعاصمة دولة الإمارات. كما يهدف إلى ترسيخ قيم إماراتية أصيلة، وتعزيز الفخر بالهوية الوطنية عبر الاحتفاء بإرثها العريق، وإحياء مراحل مهمة من تاريخها، والتعريف بجهود أجيال من الإماراتيين تمكنوا من اجتياز التحديات، لبناء دعائم دولة حديثة متطورة، تتمتع بحاضر مزدهر، وتتطلع لمستقبل واعد، وفي الوقت ذاته، تحافظ على تراثها الحضاري والثقافي، وتعمل على استدامته للأجيال المقبلة.

هذا، وللسنة الثالثة على التوالي، سيحظى مواطنو دولة الإمارات والمقيمون على أرضها وزوارها هذا العام، بفرصة الاطلاع عن كثب على أعمال الترميم الجارية في القصر، فيتيح المهرجان الفرصة للمرة الأولى لزوّاره برؤية أجنحة المعيشة في قصر الحصن، إلى جانب بعض أقسامه الأخرى، من خلال جولات تعريفية وتثقيفية بمرافقة مرشدين مختصين أثناء فعاليات مهرجان قصر الحصن السنوي من 11 - 21 فبراير المقبل.

 

الأكثر مشاركة