بروايتــَي «الذرة الرفيعة الحمراء» و«الثور»

مويان.. أخيراً يصـل إلى «العربية»

صورة

«مو يان»، اسم صيني فاجأ كثيرين، لاسيما من القراء العرب، بحصوله على جائزة نوبل للآداب العام الماضي، فهرع البعض الى المكتبات بحثاً عن إبداعات الروائي الصيني، ولكن حينها لم يعثر أولئك التواقون للتعرف إلى حيثيات فوز «مو يان» بتلك الجائزة العالمية المرموقة، على أعمال مترجمة الى اللغة العربية، واضطروا إلى الانتظار شهوراً. إذ ظهرت في المكتبات أخيراً روايتان من أبرز أعمال «مو يان»، مترجمتان الى «العربية»، وهما «الذرة الرفيعة الحمراء» التي تعد إحدى روائع المبدع الصيني، وسبباً في وقوفه على منصة «نوبل»، ورواية «الثور».

تمنح الروايتان القارئ فرصة للاطلاع على عوالم «مو يان» السردية، وعشق قلمه لواقعية سحرية بمذاق خاص، يستمد بعض أسرارها من رائد الواقعية السحرية غابرييل غارثيا ماركيز، ولكن تبقى لـ«مو يان» لمسته، وطرائقه شديدة الخصوصية في السرد، فالكاتب اشتغل على حكايات بلاده وأساطيرها، وافتتن بالرواة الشعبيين الذين كانوا يتجولون على القرى، ويروون السير في الأسواق، استمع لقصصهم، ووعاها منذ طفولته المبكرة، وحاول وهو صبي أن يعيد تشكيل تلك الحكايات، ويسردها من جديد على مسامع أمه وأسرته، وكذلك أقرانه، وغيرهم ممن كانوا لا يعيرون تلك «الحكايات الفارغة» أي اهتمام.

شغوف بالحكايات

خطاب

تطرق خطاب الكاتب الصيني مو يان، في الأكاديمية السويدية، بمناسبة حصوله على جائزة نوبل في الآداب، إلى محطات كثيرة في حياته، وتميز الخطاب بالبوح: «حضرات الأعضاء في الأكاديمية السويدية، السيدات والسادة: أتصور أن الحاضرين هنا يعرفون النذر اليسير، عبر التلفاز أو الإنترنت، عن بلدة (كاو مي) البعيدة في أقصى شمال شرق الصين. لعل بعضاً من حضراتكم قد سمحت له الظروف بأن يرى أبي الذي شارف من العمر عامه الـ‬90، أو ربما شاهد أحداً من إخوتي أو أخواتي الكبيرات، أو زوجتي وابنتي، أو حتى حفيدتي التي أكملت من عمرها عامها الأول؛ لكن أحداً لم يرَ الشخص الذي أشتاق إليه في هذه اللحظة، ولا أظن أن بإمكان أي فرد أن يراها رأي العين أبداً، إنها أمي. وقد أتيح لكثيرين أن يشاركوني شرف الحصول على الجائزة، لكن أمي لن يتاح لها أبداً أن تشاركني هذا الشرف، ولدت دميم الخلقة فكان أهل القرية يلقونني ساخرين من شكلي، وكنت أثناء سنوات الدراسة أتعرض، جراء ذلك، للبطش والإهانة على يد زملائي المشاغبين؛ فكنت أعود إلى البيت كاسف البال، فتلقاني أمي وتقول لي: (دعك من هذا الكلام الفارغ، لست دميما بحال، ثم إنك لا تنقص عن أحد أنفاً ولا عيناً، جسمك سليم وأعضاؤك كاملة، فأين المشكلة؟ ومادام قلبك عامراً بالنيات الطيبة، ويدك معطاءة بالخير فستكون أجمل واحد في الدنيا، حتى لو لم يكن لك حظ من وسامة). بل إنني عندما استقررت بالمدينة، في ما بعد، لاحظت أن عدداً ممن يقال إنهم مستنيرون، وعلى قدر رفيع من الثقافة، يسخرون من ملامح وجهي.. فكنت أتذكر قول والدتي».

ظل ذلك الصبي «مو يان» (معناه في الصينية الساكت) مفتوناً بالحكي، مع أنه لم يطالع روائع أدبية، ولم يعرف كيفية طرائق السرد وأسراره في مرحلة مبكرة، فقد نشأ في «أجواء فقيرة لم تتح له سوى القليل من فرص التعليم والقراءة؛ حتى إذا فرغ من قراءة أعداد الكتب الضئيلة، لم يجد إلا قاموس (شينهوا)، فأخذ يطالعه مراراً ويحفظ بعض مواده، ضاقت سبل العيش به حتى عمل أجيراً في مصنع للزيوت».

كان الرواة الشعبيون البوابة السحرية التي ولج منها «مو يان» الى عالم القصص والحكايات، تركوا أثراً كبيراً في روحه وقلمه، ولم ينس الكاتب الصيني أن يشيد بفضل هؤلاء في خطابه بحفل جائزة «نوبل» في الأكاديمة السويدية، وكذلك بمتذوق قصصه الأولى، أمه التي كانت تربطه بها علاقة خاصة، يقول مويان: «في وقت ما كان يفد علينا من الأسواق العامة رواة وقصاصو السير الشعبية، فكنت أسرع الى حلقاتهم، وأجلس متخفياً في ركن، استمع لفصول من الحكايا والقصص، غافلاً عما كنت مكلفاً بعمله، فكانت أمي تنحي علي باللائمة. وعندما تجلس تحت ضوء مصباح شحيح الزيت، في الليالي الطويلة، تحيك ثوباً أو ترتق أردية، كنت أنتهز الفرصة فأقص عليها ما سمعته في حلقات الرواة الشعبيين، وهو ما لم تكن تستسيغه أول الأمر؛ لاعتقادها أن الرواة ليسوا إلا طائفة ممن يرتزقون بألسنة الكذب وأفواه الخرافة من باب التكسب بالأقاويل من دون جهد مثمر خلاق. غير أنها كانت بمرور الوقت تنصت ملياً الى ما أنقله لها من حكايات، حتى لاحظت أنها كانت تعفيني من المهام الشاقة كلما حان يوم التسوق، في موافقة ضمنية على ذهابي الى منتديات الرواة والحكائين. ومن جانبي، فقد حرصت على أن أرد لها الجميل بأن أضيف الى ما أعيده على آذانها من السير نتفاً من خيال وبعضاً من وقائع في ثنايا الحكي؛ ولم تكن الذاكرة تضن علي وقت الحاجة»، حسبما نقل مترجم رواية «الثور»، الدكتور محسن فرجاني، في تقديمه للرواية التي صدرت نسختها العربية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر.

راوٍ صغير

بين «الذرة الرفيعة الحمراء» و«الثور» ملامح عدة مشتركة، وأيضاً وجوه اختلاف، على الأقل زمانياً وحجماً، فـ«الذرة الرفيعة الحمراء» أقرب الى الرواية الملحمية، إذ تعود الى فترة تاريخية مفصلية في حياة الصين وشعبها، وتدور أحداثها خلال فترة الاحتلال الياباني للصين (‬1937 ـ ‬1945)، ومقاومة الصينيين للمحتل، فيما تتخذ رواية «الثور» من فترة السبعينات حيزاً زمانياً، وهي أقرب الى «النوفيلا» منها الى العمل الممتد الصفحات.

تشترك «الذرة الرفيعة الحمراء» التي صدرت عن المركز القومي للترجمة في مصر، وترجمها الدكتور حسانين فهمي حسين، و«الثور»، أيضاً، في ملمح سردي بارز، وهو ذلك الراوي الصغير، الصبي الذي يحاول اكتشاف ما حوله: فك شفرات بيئة مكتنزة بالطلاسم والأسرار، ففي الرواية الأولى ثمة «طفل يتذكر ويحكي ما رآه وما روي له، مستنداً إلى وعي بهوية الصين، ومشهد حقول الذرة الرفيعة الحمراء التي تشكل الخلفية الطبيعية والسحرية لعالم هذه الرواية البديعة، ففي هذه الحقول وحولها تقع كل الأحداث والأسرار والأفراح والجنازات، الذرة الرفيعة الحمراء التي يكتب الراوي مرثيتها بعد عودته وحضوره المفاجئ في نهـاية الرواية، معلناً عن رعـبه من الذرة المهجنة التي زحـفت واحتلت الصين».

أما في رواية «الثور» فالراوي إحدى شخصيات العمل، الصبي (روهان)، الذي يجد ذاته وسط مأساة، متورطاً مع بعض من حوله في قريته النائية، في المسؤولية عن نفوق ثور تعرض لعملية «إخصاء»، وأصيب بعدوى أدت الى تلك النهاية.

تكشف الرواية عن صبي بخيال متوقد، شغوف بالحكي (في سيرة مشابهة الى حد كبير مع صاحب العمل نفسه مو يان)، بدا الصبي صاحب حيلة كيما يستطيع العيش، يحاول التحايل على ظروفه، يتطرق الى تعرية فساد بعض المسؤولين حوله، لاسيما بعدما وجد نفسه في خضم واقعة صغيرة تحولت الى حادثة كبيرة.

ترسم الروايتان لوحتين كبيرتين عن الحياة في الصين، مزدحمتين بالألوان والتفاصيل، فلاحون ومناضلون ومدّعو ثورية ومسؤولون فاسدون، وكذلك ملامح بيئة مليئة بالشقاء من أجل لقمة العيش، وكذلك حافلة بالعادات والتقاليد والأساطير، التي تدهش القارئ، خصوصاً أن حائز «نوبل»، مو يان، قد استطاع تضفير كل ذلك ببراعة في حكاياته، بحيث بدت تلك الأساطير جزءاً أصيلاً في روايات مو يان، وليست مجرد تفاصيل تطرز السرد، أو حليات مضافة يمكن الاستغناء عنها.

تستوقف قارئ أعمال الكاتب الصيني، مو يان، (من مواليد ‬1955) عناوين رواياته، فثمة ارتباط شديد بينها وبين المكان، إذ تحيل غالباً الى الأرض التي نشأ فيها الكاتب، بداية من روايات «الفجل الأحمر» (‬1985) و«الذرة الرفيعة الحمراء» (‬1986) مروراً بـ«أناشيد الثوم» (‬1988)، و«القطن الأبيض»، وصولاً الى «الغابة الحمراء» (‬1999)، وغيرها من الأعمال التي تنطق منذ عناونيها بتأريخ صاحبها للمكان وقاطنيه.

تويتر