«عناق».. البـحث عن قليل من الفرح

في زمن الرواية، وفيضانها شبه اليومي، يسعد القارئ حينما يعثر على مبدعين مازالوا يتذكرون القصة القصيرة، ذلك الفن الجميل الذي كاد يتوارى، ومن قبله الشعر، مقارنة بالرواية التي بــدت كأنهــا خيار إبداعي وحيد في الفترة الأخيرة.

ومن بين الأقلام التي مازالت متمسكة بالقصة القصيرة قلم الكاتبة المغربية لطيفة لبصير، التي صـدرت لها أخيراً مجموعة قصصية بعـنوان «عنـاق»، والتي تحفل بنماذج من الباحـثين عن الحد الأدنى من الفرح، والسـاعين لعنـاقات وهمية مع أحبة غائبين، أو حتى متخيّلين، لاسيما مع جفاف الحياة، وخلوّها مما يبهج.

يتمرد عنوان لطيفة لبصير «عناق»، ليتسـلل إلى كثـير من قصص المجموعة، بل ويتحول ذلك الفعل المحمل بمشاعر بشرية إلى كـيانات وكائنات تتعانق هي الأخـرى أمام أعين رواة الحـكايات وسارديها، ليغـلف العناق نباتات، وكتباً، وارواحـاً عن بعد، قادمـة من عـوالم أخرى.

بكثير من الحرفية يعالج قلم لطيفة لبصير قضايا كثيرة، في جديدها، إذ تبتعد المبدعة المغربية عن الضجـيج، والعـبارات الرنانة، وتدير حوارات هادئة في نفوس أبطالها أولاً، ثم بينهم وبين آخرين بعد ذلك، ليجد القارئ أن سرداً عفوياً بلا ضجيج، يحمل دلالات عميقة شديدة الرهافة، وإسقاطات تفضي إلى كشف المستور، وتمسّ أمراضاً نفسية واجتماعية، وتكشف زيف أدعياء لا يحترمون خيارات البشر، ولا يعترفون بإنسانية خارج مداراتهم.

نماذج هشّة

تعريف

لطيفة لبصير، كاتبة وباحثة، من مواليد مدينة الدار البيضاء. أستاذة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني. تحمل دكتوراه من كلية الآداب جامعة الحسن الثاني في عام .2006

نشطت برنامج الصالون الثقافي في قناة دوتشيه فيله الألمانية بشراكة مع قناة المغربية. وتعمل لطيفة على فعّلت ورشات الكتابة في القصة القصيرة في المغرب.

ومن أعمال لطيفة لبصير «رغبة فقط»، و«ضفائر»، و«أخاف من..» والأعمال الثلاثة مجموعات قصصية، ولها أيضاً مجموعة قصصية مشتركة مع القاص الإسباني نافارو. وللطيفة مؤلفات مشتركة مترجمة بالإسبانية والألمانية. كما نشرت الكثير من المقالات في العديد من المجلات المغربية والعربية، كما تكتب عموداً شهرياً في مجلة «نساء من المغرب»، وتشرف على صفحة «مبدعات في الطريق» التي تعنى بالقصة القصيرة، وتكتب فيها ركن «أدب وفكر».

في «عناق» ثمة نماذج بشرية هشة، تحاول الفرار من قبح الواقع، وشخصياته الملوثة، إلى فضاءات أخرى أبهى، قد تكون عبر الحلم، أو حتى الشرود الاختياري، والسفر إلى عـوالم أخرى، لاستدعاء طفولة، أو أمّ، أو ابنة، أو حبيب، أو حتى أمكنة ترتبط بذكريات تعيد بعض الروح، وقليلاً من الفرح إلى تائه ما في قصص «عناق».

تتعدد صور السرد وأشكالها في قصص لطيفة لبصير، فبينما تعمد إحداها إلى صورة كلاسيكية معتادة، تتوالى فيها الأحداث بتراتبية بسيطة، تلجأ أخرى إلى بنية مركبة، تتداخل فيها الأزمنة، وكذلك الأمكنة، وتتداعى جملها في شكل حر، فقرة من الحاضر، وأخرى من الماضي، يتجاور متكلم مع غائب، ويتحاور حي مع ميت، أو بالعكس، لتنمحي المسافة بين الواقعي والمتخيل، والحلم والحقيقة، وعالمي الغيب والشهادة والغيب، إن صح التعبير.

والحال ليست ببعيدة عن مرامي «عناق»، ففيما تعالج، بشكل فني، قصص عدة قضايا الحريات الشخصية، واحترام الفروقات البشرية، تبحر أخرى في النفوس، وتلج دهاليزها، وتحاول الكشف عن علل كامنة في مناطق قصية، لأناس يبدون ظاهرياً بلا متاعب، بينما هم من الداخل معطوبون، في حاجة إلى الكثير من الترميم، ولعل هذا ما ألحت عليه قصص كثيرة في المجموعة الجديدة للطيفة لبصير.

اشتغال على اللغة

من ناحية اللغة، اعتمدت المؤلفة على عفوية مطرزة بالشاعرية، إذ لم تتخلَ قصص «عناق» عن اللغة المنمقة، التي تشتغل على بنياتها المختلفة، بدءاً من الكلمة المفردة، مرورًا بالجملة، وصولاً إلى العمل ككل. واللافت أن الكاتبة المغربية حاولت التنويع بين السرد والوصف والحوار، في معظم قصص المجموعة، ولم تعتمد على ملمح واحد، لتظل اللغة محتفظة بإشراقها، مطعمة أحيانا بمقــولات من الشرق والغرب، لمحة ساخــرة للجاحظ، تدخل في مشاكسة أو محاورة مع بيت شعر يلخص فلسفة أبي العلاء المعري، ورؤية أسير المحبسين في الحياة.

وفي قصة أخرى قد تعمد الكاتبة إلى تضمينها قصيدة مترجمة لشاعر أورغواي ماريو بينيديتي، وهكذا تتعدد الاقتباسات والتضمينات في قصص «عناق»، والتي كانت تجري على ألسنة شخوص المجموعة ورواة مشاهدها، بعفوية لا افتعال فيها، ولا ادعاء لثقافة ما، إذ كانت موظفة بشكل جيد، يخدم السياق العام ولا يبدو ناتئاً عنه.

براءة

من أبرز ملامح مجموعة «عناق» تكرر تيمة استدعاء الطفولة، عبر هروب السارد أحياناً إلى ماضيه هو، وأيام البراءة والدهشة الأولى، أو يلجأ إلى التماس العون من براءات الآخرين، ابنة أو ابناً حاضراً أحيانا، وغائباً أخرى، وهو ما ظهر في أكثر من قصة.

وفي قـصة «رقصة المـون ووك» لا تجـد الساردة معيناً للفرح، سوى في تقـليد ابنـتها الـبريء لرقصـة مايـكل جاكسون الشهـيرة في إحدى أغنياته، لكن يصطدم ذلك بسخرية الأب، والتي تصب على الابنة والأم وصاحب الرقصة أيضاً، ويصف الاب الأخير بأنه مات لأنه هشّ. تحمل القصة العديد من التأويلات، وتعود الساردة إلى ماضيها هي مع القـمر، وواقعـها وما صـارت إليه الأحوال من هشاشة تصـلح عنواناً للمرحلة، وتغـلف الحـياة: «لم تكن لـدي رقصة للقمر، كـان القمر قد توقـف عن الرقـص أمام عينـي منـذ سنـوات، منذ أن غـادرت الجـامعة لأتـزوج، توقفت اللغة الإنجليزية منذ ذلك الـيوم، وبـدأت أحـلم بشيء ما أفعله، لكـنني لم أستطع، وبدأت تدب في الهشاشة.. هشـاشة الـفراغ والعدم، لكن زوجي لا يفـهم هذه الهشاشة المـلعونة. كان التلفاز يبث صور مايكل جاكسون وهو يغادر العالم فجأة مخلفا أشباحه الغريبة، حتى إنهم بدأوا يتخيلون أن شبح مايكل جاء ليطوف في قصره، وقاموا بتصوير الأشباح الوهمية. كان مايكل يملك كل شيء، هذا ما أفكر فيه، الأشياء، الأطفال، مدينة للأحلام، الذهب، المال، الشهرة... كل هذه الأشياء لم تكن تكفي لكي ينام. كان يبدو مثل الطفل وهو يلعب مع الأطفال. كان طفلاً كبيراً... أحيانا تستبد الهشاشة بروحي، فارغب في مقاومتها، ولكن من دون جدوى فأحتمي بطفلتي في عناق أشعر بأنه سيغير من هشاشتي. أناديها كلما تعبت وأقول لها: هيا يا طفلتي ارقصي رقصة مشية القمر.. تبدأ طفلتي في المشي بخطواتها المحسوبة، أشعر بعلاقة ما مع العالم الذي أنتمي إليه، إنه زمني الذي يتكرر والذي يعيد الخطو نفسه، أرتـاح لذلك وأحثـها على أن تصــرخ طويلاً، مثل مـايكل جـاكسون..».

يشار إلى أن «عناق» الصادرة عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، تقع في 136 صفحة، وتضم 18 قصة قصيرة، وهي «الدعسوقة، عيون دمعة، عناق، الأرجوحة، عيون من الخلف، سأسميك نادين، الشقــة رقـم ،24 السـيدة ج.ك، نأنأة، بابا في الجنة، رقصة المون ووك، شيء من الفرخ القليل، تجاور، حديدان الحرامي، صمت، حجرة عبداللطيف، الوشم، والشبيهة».

الأكثر مشاركة