أصيل منصور: لا يوجد أصعب من البحث عن الهوية من خلال الصور

«عمّو نشأت».. أين شهداؤنا منا؟

أصيل منصور: شهداؤنا منسيون.. هذه حقيقة مؤلمة. تصوير: أشوك فيرما

تتبع الحقيقة، حلوة كانت أو مرة، ليس بالأمر السهل، خصوصاً إذا كانت ترواد متتبعها شكوك أو احساس غامض، هذا الإحساس رافق المخرج الأردني من أصل فلسطيني، أصيل منصور، في فيلمه الوثائقي «عمو نشأت» الذي عرض ضمن فعاليات الدورة الثامنة من مهرجان دبي السينمائي. أصيل الذي فقد عمه في لبنان لم ينس ملامح وجهه ولعبة «الليغو» التي اهداه إياها وهو في عمر الخمس سنوات. «عمو نشأت» في أحداث الفيلم ليس عم أصيل وحده، بل هو اقرب الى أي شخص فقد عزيزاً بطريقة غامضة، ولذلك قرر أصيل أن يعرف الحكاية، وفي صدره حسرة على الحقيقة، التي كان يعي أنها ستكون مرة مرارة 30 عاماً من الصمت. الشهداء يصبحون في طي النسيان عادة، ولا يتم ذكرهم إلا في تاريخ يوم فقدانهم، لكن أصيل آثر أن يُظهر الحقيقة، التقى برفاق عمه وجيرانه وكل ما له صله به، حتى الشجر كان شاهداً على رائحته ومروره ورأسه الذي كان يسنده على أغصانه وجذعه «لا يوجد أصعب من البحث عن الهوية من خلال صور»، هذا ما قاله أصيل، وأضاف «أصعب لحظة كانت عندما رأيت وجه والدي خيري منصور وهو يسمع الحقيقة الخالصة للمرة الأولى بأن شقيقه الأصغر تم اغتياله بأمر إسرائيلي على يد عربية».

أصيل منصور

ولد المخرج الفلسطيني-الأردني أصيل منصور في بغداد عام ،1977 وقدّم أول أعماله القصيرة عام 2003 بعنوان«كوابيس الحقيقة»، ثم «السلاح صاحي» عام ،2004 و«أقدام صغيرة» عام .2006 شارك أصيل منصور في المسلسل الوثائقي«سيرة لاجئ»، الذي سلّط، بأجزائه الستّة، الضوء على حياة الفلسطينيين المهجّرين.


عمّنا نشأت

قصة «عمو نشأت» وما دار حولها من وجوه كانت معه حملت البنادق على أمل العودة وهم لا وجود لهم في حياتنا السريعة، قابعون في ذكريات كان لها الأمل في أن هناك بيتاً ما في قرية ما ينتظرهم، وارتطمت بواقع اوسلو وتشابك الأيدي مع الصهيوني المحتل، فانتزع معه الحلم والعودة في آن واحد، كل هذه التفاصيل دق ناقوسها أصيل في فيلمه في سؤال خيم على الجميع: أين هؤلاء، الأموات منهم والأحياء بيننا؟ فالبحث عن طريقة الموت كانت الاقل ألماً بالنسبة للظروف المحيطة، وانت تشاهد من تعدى عمره 60 يعود شابا فقط ليحكي زمنا كان يوما أملا بوصلته موجهة إلى فلسطين.

«عمو نشأت» حكاية لا تخص أصيل وعائلته فحسب، بل هو عمنا كلنا، الحقيقة مؤلمة بأنه نزف في المستشفى حتى استشهد، لأن سيارة من عناصر الميليشيات قررت بأمر اسرائيلي ان تقتل نشأت، فقد نجح أصيل منصور في جعلنا نتتبع معه شخصية غامضة له ولنا، وأحسسنا كم كان «عمو نشأت» قريبا.

الروح عندما تحلق

شخصية نشأت التي تعتبر غامضة بالنسبة لكثيرين تصبح فجأة أقرب إلى الروح من القلب، فقد استطاع مخرج فيلم «أقدام صغيرة» جعل شخصية نشأت شخصية تخص كل فرد فقد عزيزاً بظروف غامضة، لكن المعضلة التي واجهت أصيل ليست في تتبع طريقة موت عمه، بل في والده الكاتب خيري منصور، الذي كان طوال السنوات الفائتة يتجنب الحديث عن الموضوع، من شدة ألمه على فقدان هذا الشقيق، إضافة إلى عدم رغبته في معرفة طريقة الموت.

عندما يكون الميت فدائياً فإن طريقة موته ليست الأهم، لكن كشف الحقيقة ضمن مجريات حميمة وبالغة العاطفة أثّر في خيري منصور الأب الذي تلقى الحقيقة للمرة الأولى وهو أمام الكاميرا، وعن هذا كتب منصور الأب «30 عاماً ونحن لا نعرف هذه الحقيقة الفاجعة، فمن قتل نشأت ليس الاسرائيليين، بل بأمر منهم، ومن نفّذ القتل عرب من صلب الروم. وحين فاجأني الابن بعد فراغه من المهمة الصعبة قلت له: استشهد عمك مرتين، مرة برصاص عدونا، ومرة بسيارة ذوي القربى، سواء كانوا الأشد مضاضة أو الأشد وضاعة أو الأنكى من الأعداء».

صمت

أصيل الذي زار فلسطين للمرة الأولى في حياته عمل عامين على تتبع الحقيقة، ولم يكن يتخيل أن يرى مزارع عائلته في طولكرم، لكنه رأى شيئا آخر وضحت ملامحه على وجهه في تساؤل: أين نضال عمي من هذه الأراضي؟ وخيّم صمت على المشهد وعلى الجمهور الصامت منذ البداية إلا في بعض ردات الفعل العاطفية من بكاء أو شهيق أو لعنة. وقال أصيل «والدي هو السبب في تتبعي هذه الحقيقة، كان يستفزني صمته ويستفزني هروبه وأنا اعلم كم كان عمي نشأت قريباً إلى قلبه، ذهبت إلى لبنان ووطئت قدماي فلسطين، صمت، وشعرت بالعودة، لكن الحقيقة التي توصلت إليها هي أن شهداءنا منسيون»، وقد كتب منصور الأب عن هذا «عندما اصطحبني الابن إلى القبر بعد 30 عاماً تفرغ خلالها عمه للسهر ومنادمة جذور الشجر والدهشة مما جرى، قلت له وأنا احتضن الشاهدة: لم ينج أحد منا من الموت غيره، وللحظة كانت الشمس فيها على وشك الغياب أو في لحظة الاصيل قلت لأصيل، انظر إن قبره يشبه مهده تماما، أعرف اننا نعيش زمناً لا يذكر الناس فيه موتاهم او حتى شهداءهم اكثر من عام، كما قال الشاعر التركي ناظم حكمت لزوجته نوار في رسالة من السجن، لكن 30 عاماً هي أقل من ربع ساعة بمقياس تقاويم اخرى، لقد كبرنا جميعا 30 عاماً منذ ذلك الاجتياح ومنذ ذلك الاغتيال إلا نشأت، الشهيد المزدوج الذي لايزال يقفز برشاقة من خلع جسده من البقاع الى دير الغصون، لكنه لم يصل بعد!». والمشاهد لتسلسل احداث الفيلم يشعر كم كان خيري الأب يحاول تجاهل حقيقة موت نشأت، والهروب من كل ما يربطه بالماضي.

تويتر