القاهرة تكتحل برماد حريقين

«السمّان والخريف»..أسراب الأدعياء تتهاوى

حريق يناير 2011 يعيد صورة حريق القاهرة الأول عام .1952 رويترز

الزمان: يناير 1952 أو 2011 فالصورة متقاربة مع فوارق ما..

المكان: قاهرة المعز..

الحدث: المحروسة تحترق.. و«قل في هذا اليوم ما شئت، أين الوزير؟ لا أحد يدري، أين البوليس؟ لا أحد يدري.. أين الجيش؟ لا أحد يدري، اختفى الأمن، وزحف الشيطان»، كانت تلك أسئلة أرقت إحدى شخصيات رواية «السمان والخريف» للراحل نجيب محفوظ، بعد تآمر البعض على القاهرة، وحريقها الشهير في عام ،1952 لكن عادت تلك الأسئلة لتؤرق كثيرين - ربما ملايين - منذ ايام، بعد انتفاضة الغضب المصرية، وما واجهتها من مؤامرة حاولت وأد أماني الحالمين بالتغيير، إذ أحرق متآمرون جدد القاهرة ثانية، متناسين أن مدينة الـ1000 مئذنة التي اكتحلت برمادها مرة، وخرجت بهية جميلة بعد حريق ،52 تستطيع فعل ذلك مرات ومرات، حتى وان تكرر معها السيناريو «العبثي»، فبين حريقها الأول قبل نحو ستة عقود، والثاني قبل ستة أيام، ملامح مشتركة: شوارع تغلي بالغضب، وثوار ينشدون الخلاص و«الخبز والكرامة والحرية»، ومندسّون يشعلون النيران ويخربون البلاد، وفراغ يبحث عمن يسده، ونقاط ضوء يراها الشعب قريبة، والنظام بعيدة.

تتماس مشاهد وشخصيات اللحظة الراهنة في مصر مع جو وأبطال رواية «السمان والخريف» حيث «اسراب السمان تتهاوى إلى مصير محتوم عقب رحلة شاقة مليئة بالبطولة الخيالية»، أو حتى بأول طلعة جوية، وحيث تتساقط أيضاً (في الرواية وفي اللحظة الآنية) أسراب من نهّازي الفرص ومن المنتفعين المنتمين لـ«حزب الأغلبية»، وتوجد أيضا التحولات الكبرى، فبعض حملة المباخر غيروا دفتهم، وبدلوا نبرات حديثهم بعدما تم في الأيام الأخيرة، تماما كما صنع أحد أبطال «السمان والخريف»، فمن كان مسبّحاً بحمد نظام ما قبل ثورة ،1952 بات بعد الانقلاب يحيي الثوار الجدد، ويهاجم حزبه القديم في أكثر من جريدة أو «فضائية»، كما يحدث تماما من قبل البعض في مصر.

ملحمة

في يوم 25 يناير 1952 سجل أفراد من الشرطة المصرية ملحمة في مدينة الإسماعيلية، إذ قاوموا الاحتلال الإنجليزي، ورفضوا تسليم قسم الشرطة الخاص بهم، وقاوموا حتى نفدت ذخيرتهم، واستشهد كثيرون منهم، (في مشهد مغاير تماماً لما حدث خلال الأيام الماضية)، وحين تنامت الأنباء إلى القاهرة خرج المتظاهرون بالآلاف، وملأ الغاضبون الميادين، لكن كانت المؤامرة التي حرقت القاهرة.

يصف ذلك المشهد نجيب محفوظ (1911-2006)في «السمان والخريف» بعين بطل الرواية قائلاً «خلا الميدان للغاضبين، انفجر مكنون اللاوعي كالبركان، صراخ جنوني كالعواء. انقضاض على أي قائم على الجانبين. بترول يراق. حرائق تشتعل. أبواب تحطم. بضائع تتناثر. تيارات تندفع كالامواج المتلاطمة. الجنون نفسه بلا رقيب. ها هي القاهرة تثور على نفسها. انها تصب على ذاتها ما تود أن تصبه على عدوها. انها تنتحر.. هذا الطوفان سيقتلع الحكومة والحزب وشخصه في النهاية.. الضوضاء فوق كل احتمال كأن كل ذرة في الأرض تصرخ. اللهيب ينطلق من كل موقع. انه يرقص في النوافذ، يقعقع في الأسقف، يصفر في الجدران، يطير في الجو والدخان يتربع مكان السماء. رائحة الحريق تقتحم الأنوف كعصارة جهنمية من الخشب والأقمشة وزيوت شتى. هتافات غامضة كأنما تنبثق من الدخان. غلمان يخربون كل شيء في نشوة وبلا مبالاة. جدران تنهار مفجرة رعداً. الغضب المكتوم، اليأس المضغوط، الضيق المتكتل، كل أولئك حطم القمقم وانطلق كزوبعة من الشياطين. وقال لنفسه إن أشياء كثيرة يجب أن تحرق ولكن ليست القاهرة.. في الشوارع الرئيسة رجال يصرخون: احرق.. خرب.. يحيا الوطن».

ونتيجة تلك التظاهرات والحرائق كان إعلان الأحكام العرفية (قانون الطوارئ وحظر التجول)، وثواراً يسرعون الخطى لإنقاذ الوطن المختطف، المنتهك من قبل المحتلين، وسكان السرايا، والأحزاب الفاسدة.

شخصيات

يبرع قلم محفوظ في تصوير دواخل نهّازي الفرص والمنتفعين والآكلين على جميع الموائد، كما صنع مع شخصية محفوظ عبدالدايم في رواية «القاهرة الجديدة» وسرحان البحيري في «ميرامار»، وأيضا مع عيسى إبراهيم الدباغ بطل «السمان والخريف»، فالشاب الثلاثيني مدير مكتب الوزير، والسياسي القيادي الذي كان ينتظره مستقبل واعد، تتبدل به الأحوال فينقل إلى وظيفة متواضعة، بعد أن ترك حزبه السلطة، ثم يحال إلى التقاعد مع قيام الضباط الأحرار بثورتهم عام ،1952 إذ يعتبرونه من رموز العهد الماضي، ولذا تقصيه حركة التطهير من وظيفته، وتعطيه معاشاً زهيداً. لم تقف الأمور المتدهورة مع الدباغ عند المنصب والجاه والمال، بل تتعدى ذلك إلى الجانب العاطفي، إذ يتخلى عنه أهل خطيبته مع ظروفه الجديدة، والحال التي وصل إليها، إذ لم يعد مناسباً ليكون زوجاً لإحدى فتيات المجتمع المخملي وابنة أحد «البكوات»، وكما ضاع منه المنصب تضيع منه الحبيبة (سلوى).

يبحث الدباغ عن رحلة تنسيه مرارات أيامه المتلاحقة، يذهب إلى الإسكندرية، كي يعيش وسط غرباء لا يعرفهم ولا يعرفونه، يبيع منزله الكائن بأحد الأحياء الراقية، وكذلك هدايا فخمة جلبها إليه منصبه الحزبي، ووساطاته لدى بعض المعارف، يصرف تلك الأموال على سهراته، وخلال رحلة البحث عن نسيان العز القديم، يصادف فتاة ليل على كورنيش الإسكندرية، يتعرف إليها، وتعيش معه فترة، ويتخلى عنها حين يعرف أنها حامل منه، يحاول أن يجبرها على الإجهاض، لكنها ترفض.

رموز

يعود الدباغ إلى القاهرة لوفاة والدته، يلتقي مع بعض الأصدقاء القدامى، حال بعضهم مشابه لحاله، فيما آخرون رفعتهم الظروف الجديدة وصاروا من رموز تلك المرحلة، خصوصًا ابن عمه (حسن) الذي صار صاحب مركز مرموق، وحل محل الدباغ حتى إنه خطب حبيبته القديمة، وبينما اتجه الدباغ إلى الكأس والقمار والسهرات، هرب صديق له أحيل هو الآخر إلى التقاعد إلى التصوف وكتب «الدروشة»، معتبراً أن فيها ما يشفي الصدر، ويعالج القلب مما لحق به. يغيب الدباغ في أحلامه القديمة، يرفض الالتحاق بأي عمل، رغم العروض التي كانت تأتيه، وأبرزها من ابن عمه، لكن الحزبي القديم يرفض، متحسراً على أيامه الماضية التي كان خلالها يحتقر الجميع، ويظن أن الحال لن يتغير، وأن السلطة ستظل رفيقته.

بعد حين يتعرف الدباغ إلى امرأة سليلة عائلة كبيرة، ووريثة أموال طائلة، يسعى الى الزواج منها حتى بعد أن يعرف أنه سيكون الرابع في قائمة أزواجها، ويطلب من أم عروسه ان تزوده بالمال، ان تصرف عليه هو وزوجته. تسير الأيام بعيسى رتيبة ما بين سهرات القمار وفنون طعام زوجته وبعض التنقلات إلى اماكن مختلفة. يذهب إلى الإسكندرية، يعثر على من كانت فتاة ليل، يشاهدها تقبّل طفلة صغيرة، تتداعى إليه الذكريات، يعرف أن الطفلة هي ابنته، تصده الأم وتصفه بأبشع الصفات، وفي النهاية يجلس حائراً في ظل تمثال الزعيم سعد زغلول بالإسكندرية، مفكراً في الحياة والماضي، يصادف شاباً كان أحد ضحاياه أيام كانت له سطوة، يحاول أن يختصر الحديث معه، لكن الشاب يخاطبه بكل أريحية، موحياً إليه بأنه قد نسي ما كان من أمر اعتقاله، وأن على الدباغ أن يبدأ حياة جديدة.

تويتر