تشكيل يرتحل بين «الأصابع والأشياء»
خالد عبدالواحد يفتح باب التأويل في معرضه الرابع. تصوير: باتريك كاستيلو
أيهما أهم الأصابع أم الأشياء؟ وهل يمكن لأحدهما أن يكون فاعلاً من دون الآخر؟ فماذا لوكان العالم بلا أشياء نستهلكها ونتسلى بها، نكسر ببهجتها المؤقتة جلافة الملل والضيق، ونرضي بها رغبتنا الغامرة في الشراء والعودة إلى البيت محملين بأكياس وعلب؟ وهل ستبقى الأمكنة تحمل المعنى الذي تحمله الآن من دون الأشياء التي فيها؟ ولو كانت الحياة بلا أصابع مثلاً، هل سيكون العالم بلا خواتم، وبلا أزرار مصاعد ومقابس كهرباء، ومفاتيح، وآلات صرف آلية، وكيف سيشير العاشق إلى حبيبته، والواشي إلى ضحيته. وهل سيكون هناك شكل آخر لعلامة النصر، وهل سيجد الأطفال طريقة أخرى لتعلم الجمع والطرح؟
عشرات الأسئلة والتداعيات التي تأخذ هذا المنحى يمكنها أن تفرض نفسها على زائر معرض «أصابع وأشياء» للفنان خالد عبد الواحد (1975) الذي تستضيفه صالة «سوا» في دبي. أفكار يمكنها أن تأخذك بعيداً عن أعمال المعرض، لتعلق في الفكرة وتداعياتها، وتصير اللوحات استكمالاً لها وليس العكس.
في المعرض، وهو الرابع في مسيرة الفنان الشاب، نقف عند جملة من نقاط الارتكاز، فهو يشحن هذه التجربة بافتراضات ذهنية عدة، ويعمل بشكل أو بآخر على انتشال العادي من خموله ليعيد بعثه، وفق صياغات بصرية لا تخلو من انعكاسات داخلية مأزومة، هي بالضرورة السبب والمحرض لفكرة هذا المعرض الذي يقدم نفسه وفق سياقين أو مرحلتين، على الرغم من وحدة الحال التي تجمع بين مناخاته، على مستويي الشكل والمضمون.
وكما قال عبد الواحد، فإن «الأشياء هي التي قادته إلى الأصابع، وليس العكس»، فالأشياء العادية التي لا نشعر بوجودها، بسبب اعتيادها، كانت المنطلق الأول لمجموعة أعمال تأخذ من مقابض الأبواب والمفاتيح والفناجين، وغيرها من الأشياء الأساسية المهملة في حياتنا، موضوعاً لها. ثم جاءت الأصابع نتيجة للبحث في علاقة هذه الأشياء بمحيطها، ليولد ذلك الجدل البصري والذهني حول هذه العلاقة، وليكون المعرض الذي يتضمن 20 لوحة «إيكرليك على قماش» وبقياسات مختلفة مساحة لهذا الجدل.
اختزال
تقوم أعمال خالد عبد الواحد على الاختزال في كل شيء، وهي وإن كانت تبدو حافلة باللون والخطوط والتنويعات والضربات، إلا أن ذلك كله لا يجعلها تقترب من التزيينية، ولا التصويرية، وإن كان بعضها يندرج في إطار «الطبيعة الصامتة».
ثمة رغبة واضحة عند هذا الفنان في القول والبوح والتعبير، ولكن بأقل قدر ممكن من الثرثرة والشرح، ويظل المعطى البصري الذي أمامنا منزاحاً عن واقعه، وفيه قدر من التحريفية التي تنتشله من فخ الاكتمال، إن الذي أمامنا منجز لا يقبل التعديل والتدخل والتغيير، وحتى الانقلاب عليه بصورة كاملة.
في المعرض، لا يضعنا عبد الواحد أمام تجارب بصرية ناجزة، بل يمكن التعامل معها ، حتى ولو كانت مكتملة على صعيد الشكل، على أنها رموز وإشارات ومضامين، يمكنها أن تكون نواة لمشروع بصري، ينحاز تماماً لعوالم مرتبطة بعزلة الإنسان وعلاقته المأزومة بما يحيط به، إنسان الراهن العالق في لعنة الاقتصادات الناجحة والمنهارة، والمحاصر بفواتير وسلع وأشياء تملي عليه شروطها، حيث صار يعيش ليلبي متطلبات الشركات المصنعة والسوق وليس العكس.
ومن هنا، فإن أشياء عبد الواحد التي يلتقطها من يومياته تحمل قدراً من الحميمية، أشياء يجردها من مفهومها كسلعة، ويضعها في مساحات بصرية وتشكيلات لونية «عاطفية» غير استهلاكية. وعلى الرغم من أن العلاقة مع الأشياء في المعرض تحاول أن يكون فيها ذلك القدر من الانحياز والتعاطف، إلا أنها لا تستطيع أن تبعد عن مخيلتنا ذلك المنجز التنظيري عند ماركس وهيغل عن علاقة الإنسان بالأشياء في المجتمعات الحديثة، وأن العلاقات الفردية هي علاقة بين الأشياء، وقيمة الفرد تصير رهناً بما يملك.
تفاصيل ضائعة
إن كان لنا أن نقسم المعرض إلى قسمين أو مسارين، فعلينا أولاً الوقوف عند «الأشياء» التي اشتغل عليها عبد الواحد، والتقطها من يومياته البسيطة، ليجعل منها موضوعاً بحد ذاته، وهي أشياء لا نعيرها أهمية بفعل الاستخدام اليومي، «والألفة التي تقتل الدهشة»، ولتكررها بفعل الضرورة اليومية، كفنجان الشاي مثلاً، أو بنطال ملقى على حافة كرسي، الباب، علاقة المفاتيح، وغيرها من مثل هذا التفاصيل الصغيرة الضائعة في زحمة المشهديات المبهرة التي تأسرنا وتجعل بيننا وبين تأمل ما يحيط بنا مسافة تكبر مع الوقت، لتضلل كل ما نراه، ولتعتاد أعيننا الكسولة على رؤية مشهديات منجزة مسبقاً، بعيداً عن التفاصيل التي تقوم عليها وتكونها، غير أن مسيرة الأشياء هذه لا تقف في المعرض عند كثير من المستخدمات، بل تكبر اللعبة لنصير نحن جزءاً من هذه الأشياء المهملة التي تحيط بنا.
عزل المألوف
في المسار الثاني للمعرض الذي يوظف فيه عبد الواحد الأصابع في جملة من الإحالات البصرية والدلالية والجمالية، يمكننا الوقوف عند جملة من مكامن القوة، التي تبدأ من لعبة العزل، عزل هذه الأصابع عن مرجعيتها الجسمانية ليصير انفلاتها نقطة انطلاق إلى تكوينات تشكيلية مؤرقة وموحية، ويصير هذا الجزء من الجسد كائناً مستقلاً أو مجموعة كائنات مذكرة ومؤنثة، لا يخلو مظهرها العام من قسوة، ومكامن تفتح أمامنا نوافذ على خيالات وتأويلات كثيرة تصيب قليلاً وتخطئ كثيراً.
تضعنا أصابع عبد الواحد أمام حيرة حقيقية، فهل علينا التعامل معها وفق ما يمكن أن يخطر في بالنا من دلالات، أو الاكتفاء بالمشاهدة الصامتة التي تحيلنا إلى خوف حقيقي، تولده قسوة الاشتغال على عناصر اللوحة، التفصيلات الحادة، الخطوط القوية، وذلك الاختزال المريب والتكثيف والتقشف في المفردات، على الرغم من حجم الاشتغال الواضح على الخلفيات، التي تبرز فيها الصنعة والحرفة البصرية، والتي يؤسس فيها لفضاءات لايعني اتساعها إلا المزيد من العزل لأعضاء يخيل لمتأملها أنها كائنات وحيدة مستوحشة، على الرغم مما توحي به الأصابع بأنها أكثر الأعضاء البشرية جماعية وحميمية واقتراباً واعتماداً على بعضها.
أصابع هذا المعرض لا تقترب من الحميمية، بل تحمل في حضورها نفوراً حقيقياً يدعمه عبد الواحد في تكوينات لونية تبرز فيها القسوة والتسلط والفردية والأنانية، وربما تتولد لديك الرغبة في «جرجرة» هذا الإصبع الناهض المغرور إلى خارج الصالة والتعارك معه، وأن تصرخ في وجهه «اللعنة عليك يا سيدي الإصبع».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news