«برسونا».. الصمت حيال عالم متوحش

ليف أولمان وبيبي أندرسون في مشهد من الفيلم.              ميدل

نكمل اليوم أيضاً مع أفلام أنغمار برغمان بعد استعادتنا الخميس الماضي فيلم «صرخات وهمسات» 1972 ،ونحن نعود ست سنوات إلى الوراء لها أن تفصله عن فيلم «برسونا» السابق له، والذي صوره برغمان وفرغ منه عام 1966 ،وعلى شيء من تتبع تداخل مصائر برغمان الشخصية بالفيلم الذي شكل بالنسبة إليه حبل نجاة ـ حسب تعبيره ـ ومخلصاً له من حالة إحباط عارمة متأتية من عمله مديراً لمسرح في استوكهولم، وإصابته بالرئة ذاتها التي أدخلته المستشفى، ولتشكل فترة بقائه فيها ريثما يتماثل للشفاء، مساحة للتفكير بـ «برسونا» والقيام بتصويره بعد مغادرته المستشفى.

لكن، لمَ يشكل هذا الفيلم منجيا لبرغمان؟ وللإجابة عن السؤال، يمكن الاستعانة بملاحظاته حوله، وما أورده في مذكراته عنه، والتي تتمحور أولاً بصراعات وهواجس برغمان نفسه أولاً، ومدى الضغط الذي شعر به من جراء مسعاه التوفيق بين عمله الإداري في مسرح وصناعته الأفلام، بالإضافة إلى الاقتباس من مقدمة كتبها خصوصا لهذا الفيلم، بعنوان «جلد الأفعى»، لها أن تضيء ما هو الخلاص الذي يبحث عنه في الأفلام التي صنعها، والصراعات النفسية التي يعيشها برغمان والتي تفضي في النهاية إلى بناء شخصياته وعوالمه إذ يقول «ان يكون المرء فناناً لحسابه الخاص ليس بالأمر الممتع على الدوام، لكن لهذا الأمر ميزة اعتيادية: يتقاسم الفنان حالته مع كل كائن حي، الذي، هو أيضاً، لا يوجد إلا لذاته. في نهاية المطاف، تخلق هذه الحالة من دون شك أخوة تتواجد فيما بين الأفراد مجموعة أنانية على أرضنا الساخنة والقذرة تحت سماء باردة وفارغة».

لكم في المقطع السابق أن يكون معينكم في مقاربة «برسونا» لدى مشاهدته، والذي إن أخضع لمعيار يتبع الذائقة فقط، فيمكن القول ومباشرة ان المشاهد سيكون أمام أن يحبه كثيراً أو يكرهه وربما يبغضه، ولعل هذه المحاكمة البسيطة لأفلامه ستعني الكثير، وتؤكد مدى انفتاح مشاغله العميقة والذاتية على الآخر، الأمر الذي يتطلب إجراءات خاصة للانفتاح على جماليات قادمة من دواخل النفس البشرية، ولعله في «برسونا» سيكون أكثر تطرفاً وفي تتبع لما له أن يكون محور الفيلم، والذي اقتبس هنا من ملاحظاته السابقة لتصويره، إذ يقول «أصبحت السينما وسيلتي للتعبير، صرت أعبر عن نفسي بلغة لا تمر بطريق الكلام الذي افتقر له».

وفي إحالة المقطع السابق إلى فيلم «برسونا»، سنقع على منبع ما حمله، والذي يروي قصة ممثلة تقرر فجأة الصمت والتوقف عن نطق حرف واحد حيال هذا العالم المتوحش، ولنكون حيال امرأتين، الأولى صامتة والثانية لا تتوقف عن الحديث، يجمعهما بيت على شاطئ ناء له أن يساعد على شفاء المرأة من صمتها غير المرضي إنما الإرادي. وعلى يد ممرضة تقرر ملازمتها، الأولى ممثلة اسمها اليزابيث فوغلر (ليف أولمان) والثانية ممرضة تتولى رعايتها اسمها ألما (بيبي أندرسون)، ولتضع هذه الأخيرة كامل حياتها أمام إليزابيث، كيف تحب رجلاً متزوجاً، بينما تشعر ببرود اتجاه خطيبها، وصولاً إلى نزواتها وعوالمها ومشاعرها، وغير ذلك، ولتكتشف ألما بعد ذلك رسالة ترسلها إليزابيث إلى الطبيب المسؤول عنها تتندر فيها على ما ترويه لها ألما، وعلى شيء من التعالي الذي يدفعها أي ألما إلى حافة الجنون من جراء اكتشافها المؤلم.

في ما تقدم ما يمكن اعتباره هيكل الفيلم الرئيس والذي تتحرك فيه هواجس ومخاوف لا نهاية لها، صمت إليزابيث متأتٍ من عجزها عن «استيعاب الكوارث الكبرى» التي تشاهدها على التلفاز «فهي لا تلامس فكري. وجل ما في الأمر أنني أستطيع قراءة هذه الفظاعات بشيء من الشهوة والرعب.

ولكنني لن استطيع أبداً التخلص مما ترسمه تلك الصور. واحتمال تحول فني إلى تصنع». هذا مزج آخر لما تحمله إليزابيث ولما يورده بريغمان في هذا الخصوص.

الفيلم مأزوم تماماً، وفي كل شيء، ولعل تأزم علاقة إليزابيث مع ألما سيكون آخرها، فهو يبدأ من أزمة إليزابيث مباشرة، علاقتها مع كل ما حولها، وليكن الفن مصدر مقاربتها، وعلاقتها بالعالم وما يعصف به ومدى تناغم الفن مع ذلك وقدرته على استيعابه، الأمر الذي يمتد إلى علاقتها من ابنها الذي لا تستطيع الشعور اتجاهه بأي شيء، الأمر الذي نكتشفه على لسان ألما.

هناك مشهد غرائبي في الفيلم أختم به وأدع وصفه للسيناريو الذي كتبه برغمان وإيراده كما ورد فيه «بعد الحديث الطويل يهبط المساء ثم الليل، عندما تنام ألما، يبدو الأمر فجأة وكأن أحداً ما يتحرك في الغرفة، كما لو أن الضباب يدخل إليها ليحولها إلى حجر، كما لو أن قلقاً كونياً يسقط فوقها، تجر نفسها لتذهب وتتقيأ، من دون طائل، وتعود إلى الفراش من جديد، ترى حينئذ أن باب السيدة فوغلر مشقوق. تدخل وتجدها غائبة عن الوعي أو كالميتة. فيستولي عليها الخوف وتمسك بالهاتف ولكن ليس هناك حرارة. عندما تعود إلى الميتة، ترمقها هذه الأخيرة بنظرة ماكرة، وفجأة تتبادلان طبعيهما».

ربما من المهم السؤال كيف يتبادلان طبعيهما؟ وتحديداً أن برغمان يورد في السيناريو ملاحظة مفادها «لست أعرف بالضبط كيف»، لكنه ولدى تصويره حاول أن يعرف، وقد فعل، ونحن أيضاً سنحاول اكتشاف ذلك في المشاهدة، وقد مر على تصويره 43 سنة.

تويتر