زينة عاصي.. تحاور عوالم تنهار

زينة عاصي تحاكي جوهر الأشياء في أعمالها الجديدة. تصوير: أسامة أبو غانم

تحتفي التشكيلية اللبنانية زينة عاصي بالحياة، وتشتبك معها في قراءات بصرية مشحونة بقدر كبير من العاطفة، والتأمل في عوالم تقتطعها من يومياتها ويومياتنا، لتؤسس منها تجارب قوامها الإنسان والمدينة، على اعتبار أنهما من أكثر العناصر والمرجعيات التي تعرضت لجملة من التحولات والانعطافات القاسية على مدى السنوات الـ10 الأخيرة. تدخل إلى عوالم شخصية وأخرى عامة، تسترق النظر، وتدون عالماً ينهار من حولها بقوة وحرفية خالية من الرثاء والتفجع والتمسك بالماضي الذي لم يعد لائقاً بنا وصالحاً لاستيعاب جنوننا الفردي المدمر.

من هنا، فإن معرض زينة الذي افتتح أخيراً في صالة سوا في دبي، يمثل مساحة تحريضية لجدل وحوار حول جملة من القضايا التي اعتادت ان تطرحها هذه الفنانة الشابة في معارضها الفردية الأخيرة، خصوصاً أن تجاربها لا تحمل أجوبة ولا تتسم بقيم تبريرية ولا تدعي الوصول الى نتائج نهائية بقدر ما هي التقاطات تأسيسية لمشروع بصري لا يخلو في بعض تأويلاته من رثائية توثيقية للمدينة باعتبارها فعلاً اجتماعياً أكثر من كونها فعلاً هندسياً عمرانياً، يوم كانت البيوت تعرف من أسماء أصحابها وليس من أرقام وإشارات ورموز مبهمة، ويوم كانت المدينة تحمي انسانها وتمنحه قوة الانتماء إلى حواريها.

اشتباك

تفصل زينة بين مفردات ثنائيتها (الانسان والمدينة) متجاهلة ذلك الاشتباك والتداخل الحتمي والتاريخي بينهما، لنرى المدينة عالقة في عالمها، صلبة، متماسكة، عصية على الاختراق والولوج إلى ما خلف نوافذها وأبوابها وحكاياها، مدينة محكمة، تقدمها الفنانة بلغة تعبيرية عالية وتجسيدات لتفاصيل صغيرة، هي جزء لا يتجزأ من المزاج الشعبي والاجتماعي للمكان، وفي الوقت نفسه نرى الإنسان رهين عزلته وصمته الحكيم، وكأنه وفق تكويناته الحركية والجسمانية يمثل حالة تأملية ضاجة بالحراك الداخلي، فإنسان زينة المحاصر ليس فقط نتيجة ولا هو عالق في الحياد والسلبية، بل هو وإن كان متأملاً في كثير من اوضاعه، نجده اقرب الى حالة من التوثب والشراكة فيما يحدث، هو انسان فاعل على الرغم من خيبته، انسان مشبع بالعاطفة والحساسية المفرطة التي تتبدى في الايقاعية وخصوصية التكوينات (الايغونية) نسبة للتشكيلي النمساوي ايغون شيلي الذي تقترب منه زينة كثيراً وكأنها تحاكيه مع الفرق الماثل في اهمال الاخيرة للجسد والجنس باعتبارهما منطلق الحراك ومعناه.

تستقطب أعمال زينة العين ولا تترك لها مساحة للانشغال، بل إنها تجهدها وتضعها أمام تفاصيل غير منتهية خصوصاً في لوحات المدينة، ثم تقودها الى معادلات لونية وتراكمات من الأحمر والأسود والأبيض على الكانفاس، بالإضافة الى اقتراحات تبدو في كثير من الأحيان خاصة ومستمدة من رغبة الفنانة في عدم الامتثال لحرفيات مسبقة، حيث نجد ان الخلاصات التي أمامنا هي نتائج لكثير من العناصر المتناقضة التي اختلطت فكانت لوحة زينة الخاصة الممتلئة بالحياة والحركة والتكرار الذي يبدو في بعض الأحيان، والذي نتيجة للآلية التي تتبعها في تقديم تحريكات بسيطة ناعمة بين الاشكال المتماثلة، حيث يمكن أن يكون الفرق في حركة الاصابع، او في درجة ميلان الرأس او النظرة وغيرها من مثل هذه التفاصيل صعبة الالتقاط من قبل العين العابرة أو المتسرعة.

الضحية

وعلى الرغم من الفصل الذي تقوم فيه زينة بين المدينة والانسان، إلا ان المناخ العام للمعرض يؤسس لعلاقة عميقة بينهما، وإن كان هذا التأسيس ينزاح عن المباشرة في الطرح، بحيث يصير من الصعب علينا الوصول إلى قناعة تفيدنا في معرفة الضحية، فهل المدينة المكتظة بأسرارها وحكاياها هي التي افرزت كائنات عالقة في لحظات اغترابية مأزومة، ام هذا الانسان المنكسر المهزوم هو الذي أودى برأس المدينة وهجرها وقرر نفيها والتحرر منها.

في اعمال هذا المعرض تتداخل الخطوط والتأثيرات وتصير اللعبة أكبر من كونها تجارب فنية بقدر ما هي مكامن لتمرير الكثير من الأسئلة، ورصد لجملة تحولات وانقلابات على الذات ببعديها الشخصي والعام وبأفقيها الانساني والعمراني، ويصير الاعتناء بالشكل الخارجي جزءاً لا يتجزأ من لعبة البحث في دواخل الأشياء، جوهر المدينة الذي تنقض عليه الشركات العمرانية العملاقة، والأبراج التي تعلوها مهابط الطائرات والمسابح وتفتح أبواب منازلها ببصمات العين والأصابع، وجوهر الانسان الباحث عن مرجعية لإنسانيته وسط كل هذه التجاذبات المضنية، بحيث صار «الفيس بوك» وطناً بديلاً وحارة مليئة بالأخبار والناس والصور.
تويتر