«ذاكـرة الصبّار» لـثـلاث قرى فلسطينية دامية

أم ناجح تستعيد المأساة وكل حلمها أن تدفن في قريتها. من المصدر

ليس للذاكرة إلا أن تطفو، ليس لها إلا أن تجد في الفيلم ملاذاً لها لتثبت شيئاً مما يحوم ولا يستقر في استدعاء لما كانت شاهدة عليه، وصار مغيّباً تماماً كما لو أن شيئاً لم يحدث، فهي على صراع مع كل ما يفوقها قدرة، هناك آلة عسكرية إسرائيلية لا تعرف الرحمة جاهزة للانقـضاض عليها وتعميق هول ما تختزنه، وتكـدس من الآلام، ما يجعلها تنوء تحت ركام هائـل من المـصائر المفجعة والمشاهدات اللامتناهية من القـتل والتدمير والتهجير.

الذاكرة الفلسطينية فائضة بالصور، تكاد تنفجر من كثرة ما فيها من «بشر وتواريخ وأمكنة»، ولعلها حاضرة لتمضي إلى الحاضر والماضي على الإيقاع نفسه، لكن يبقى الماضي يطالب بألا يغيب، ومن هنا تحضر الأفلام الوثائقية الفلسطينية، ولعل فيلم «ذاكرة الصبّار» الفائز بجائزة المهر العربي للأفلام الوثائقية في مهرجان دبي السينمائي يأتي من الذاكرة تماماً، وسرد قصة تهجير أهالي قرى اللطرون «عمواس، يالوا، بيت نوبا» غربي القدس، والتي لم يعد لها من أثر إلا الصبّار، والذي سيملي بالتأكيد قصة دامية ما دامت أشواكه حاضرة أيضاً، وقد أقيم مكان تلك القرى حديقة عامة اسمها «حديقة كندا».

يضعنا مخرج الفيلم حنا مصلح مباشرة أمام صور التقطت للأهالي المهجرين في،١٩٦٧ وللمفارقة فإن هذه الصور التقطت بعدسة مصور إسرائيلي اسمه يوسف هوكمان والذي يعلق «كان الآلاف من السكان في مسير طويل طالبين الأمان» ومن ثم تفرد المساحة الأكبر للحاجة عائشة «أم ناجح» وهي تستعيد تفاصيل تهجيرها المؤلمة، كيف جاء الجيش الإسرائيلي وطلب إليهم الذهاب «لعند حسين» في إشارة إلى الملك الأردني الراحل حسين بن طلال، ولتمضي هي وزوجها وأولادها تاركين أمها العجوز في البيت لعجزها عن المشي، على أن يعودوا ويأخذوها، ولنعرف بعد ذلك بأن هذه العجوز تختفي تماماً، من الأرجح أنها قضت تحت الأنقاض.

الجوع والعطش رفيقا أم ناجح وأولادها، وحين تعود مع زوجها إلى قريتها لتحضر بعض الطعام يلقي القبض عليها الجنود الإسرائيلين، ليضعوها وهي ونساء أخريات في سيارة، بينما يقوم الجنود بقتل الرجال بمن فيهم زوجها.

لن تتوقف مأساتها عند ذلك، إذ يخطف المرض حياة أحد أبنائها، كما أن أولادها يمضون كل حياتهم وهم لا يعرفون والدهم الذي لا تملك أي صورة له كما تقول، كما أن كل ما تطمح إليه أم ناجح هو أن تدفن في تراب قريتها، وكذلك أبناؤها الذين يتوقون إلى العودة ولا شيء إلا العودة.

قصة عائشة التي وصلت واحدة من بين آلاف القصص، يكتفي مصلح بالتركيز عليها، لتكون اختزالاً وتكثيفاً لما حل بأهالي تلك القرى، ويعزز مصلح روايتها بتعليق من البروفيسور الإسرائيلي إيلان بابيه الذي يؤكد سياسة التطهير العرقي التي اتبعتها العصابات الإسـرائيلية في تلك القرى الثلاث، وغيرها من قرى، كما ليقول هذه ليست الرواية الفلسطينية فقط، إنهم الإسرائيليون أيضاً من يؤكدونها.

فيلم «ذاكرة الصبّار» مؤلم، ومسكون بالفاجعة، إنه الصبّار الشـيء الوحيد المتبقي من تلك القرى، فكما تقـول أغنية فـيروز في الفيـلم «بعدنا، من يبسط الحقول؟ من يملأ السلال؟ من يقطف الدوالي؟».
تويتر