الأرض والبرتقال في«ملح هذا البحر».. وحرفية «تشي» تقدم غيفارا

فيلم "تشي" يطمح أن يقدم توثيقاً حرفياً لحياة غيفارا. من المصدر

يمضي فيلم المخرجة الفلسطينية الأميركية آن ماري جاسر «ملح هذا البحر» المشارك في مسابقة المهر العربي في مهرحان دبي السينمائي الدولي نحو ملوحة بحر يافا، مدفوعاً بالحنين الذي يصطدم بواقع أشد ملوحة يتمثل في الاحتلال والتهجير وغير ذلك مما يجعل من بيت ثريا (سهير حماد) الذي ترغب أن تلامس حجارته بيتاً تقطنه مستوطنة اسرائيلية، هذا عدا اجتماع كل ما حدث ويحدث منذ عام 1948 ضد رغبتها في البقاء، إنها إقامة مؤقتة، أو فيلم مؤقت ما دامت جاسر على شيء من سرد سيرتها الذاتية كونها مثل بطلة فيلمها ثريا تعيش في بروكلين، وعادت إلى فلسطين محملة بذكريات جدها، وعينها على أن تعاين ما عاشت عليه وشكل كل وعيها وذكرياتها، وأن ترى ما بقي في المخيلة والذكريات، أن ترى فلسطين التي تحاصر حياتها من دون أن تكون قد رأتها من قبل.

يبدأ «ملح هذا البحر» من صور وثائقية لهدم بيوت الفلسطينين وتهجيرهم، ويمضي الفيلم بعد ذلك نحو حكايته التي ستطوع في النهاية كل شيء ولو استدعى ذلك شيئا من القسرية، والمضي خلف تمحور كل شيء حول فلسطين التاريخية، وانتشالها من براثن ما ألم بها، بالاستعانة بالحب بين ثريا وعماد (صالح بكري) ومنعهما في الوقت نفسه من اشباع حنينهما، الأمر الذي سيكون كافياً بالنسبة لجاسر لافتعال قيامهما بمساعد صديق لهما بالسطو على بنك لا لشيء إلا للانتقام من عوائق الحنين، ومن ثم الخروج من رام الله إلى القدس ويافا، وعليه يمكن للأحداث والحوارات وحتى القصة أن تخدم غرضاً واحداً يتمثل بإضاءة الواقع الفلسطيني بمقاربة ممن بداخله ومن جاء إليه من الخارج.

تندلع قصة الفيلم مباشرة ومن دون مقدمات، ولعل بساطة القصة لها أن تكون على تناغم مع بديهية ما ترويه، حيث نشاهد فتاة أميركية تتعرض لاستجواب مطول من ضابطة اسرائيلية في مطار تل أبيب، ولتتكرر الأسئلة نفسها من ضابط إلى آخر، ونعرف من اجابتها أنها ولدت في بروكلين، بينما والدها فقد ولد في لبنان، لكن جدها في يافا، وفي هذا ما يدفع الأمن الاسرائيلي إلى التمادي معها، وتعريضها لتفتيش دقيق وصارم، ومنحها تأشيرة دخول لأسبوعين فقط.

ثريا عائدة إلى الأرض التي لطالما حلمت بها، تريد أن ترى بيت جدها في يافا، أن تسبح في البحر الذي يسبح فيه، ولتتعرف في رام الله إلى عماد الذي لم يخرج منها منذ ١٧ عاماً، وعليه فإن كليهما يحلمان بفلسطين التي لم يقعا عليها بعين، لا بل إن ثريا تطالب بمبلغ من المال تركه جدها في البنك قبل النكبة، ولتمضي الأحداث بهما وبمساعدة صديق لعماد بالسطو على البنك، وتحصيل ما تعتبره ثريا حقها من ميراث جدها، مضافا إليه مبلغا صغيرا، وليقوم ثلاثتهم بالخروج من رام الله إلى القدس ومن ثم يافا، وليتحول الفيلم إلى فيلم ينتمي لسينما الطريق، يمضي بهم نحو التعرف إلى فلسطين التي يرونها للمرة الأولى متنقلين من مكان إلى آخر، ليذوقوا طعم ملح البحر، وبرتقال يافا، وتصل ثريا بيت جدها، ولتمضي بعد ذلك برفقة عماد إلى قريته «الدواينة»، حيث يقررا السكن في أحد البيوت المهجورة، لكن وكما كل شيء في الفيلم لا يستمر الأمر، فمساحة الحلم دائماً سرعان ما تضيق، والرغبة في البقاء في أي بقعة من فلسطين سرعان ما يكتشف استحالتها، وصولاً إلى إلقاء الشرطة القبض على عماد، وتسفير ثريا إلى أميركا، والأسئلة نفسها التي استقبلها بها الضابط الاسرائيلي، لكن مع اجابات مختلفة، كأن تجيب بأنها ولدت في يافا. في فيلم آن ماري جاسر محاولة لتقديم فسحة حلم وفرح وأمل، لكنها محاصره بالواقع الذي ما أن تحيد الشخصيات عنه حتى يتنكر بهيئة جديدة أشد قسوة، من دون إيلاء كثير اهتمام بأداء سهير حماد العناية التي تبني مع المشاهد حالة من الانسجام مع ارتجالية أدائها، على عكس صالح بكري المتسق تماماً مع الشخصية التي قدمها.

من المهر العربي، ننتقل إلى برنامج «سينما العالم» الذي يحمل هذا العالم قطافاً لأهم الأفلام التي طفت على شاشات المهرجانات العالمية، وليكون من أبرزها فيلم ستيفن سودوربورف «تشي» عن حياة الثائر الأرجنتيني أرنستو تشي غيفارا الذي كان ضمن أفلام مسابقة الدورة الأخيرة من مهرجان كان وحاز بينسيو دل تيرو عن تجسيده لشخصية غيفارا جائزة أفضل ممثل. فضيلة العرض الأساسية تتمثل في أن الفيلم عُرض كاملاً كما عرض في «كان»، أي أن المشاهد سيكون أمام أكثر من أربع ساعات يتابع فيها حياة هذا الثائر، الأمر الذي لن يكون كذلك لدى نزوله دور العرض، إذ إنه سيقدم على جزأين أو فيلمين.

يطمح فيلم «تشي» لأن يقدم توثيقاً حرفياً لأفعال غيفارا، وأؤكد كلمة «أفعال»، كون الفيلم من أوله إلى آخره، لا يدخل في ثنايا شخصية غيفارا، إلا من خلال ما تقوم به، مع الاستعانة بخطين موازيين لذلك، الأول يعود بالزمن إلى فترة سابقة لثورة 26 يوليو تتمثل في توثق أواصر صداقته بفيديل كاسترو (دميان بيتشر)، والثاني متقدم بالزمن يضيء زيارة غيفارا للأمم المتحدة في نيويورك وخطابه الشهير، وما تبقى متروك لتفاصيل المعارك التي تصل إلى دخول هافانا وسقوط نظام باتيستا، وممارساته كطبيب، وتركيزه على التعليم، ومحو الأمية بين الفلاحين المتطوعين في الثورة. كل ما يضيئه الفيلم حول شخصية غيفارا يأتي من حرص واضح على تقديمه ككائن من لحم ودم، وإبعاد شبح الأسطورة عنه، وبالتأكيد فإن الفيلم يحمل ملامح ملحمية تظلل أحلام وثورات غيفارا، والتي تأتي بكامل واقعيتها غير بعيدة عن الأسطورة نفسها.

تبقى الإشارة إلى أن غيفارا (بينسيو دل تيرو) وطيلة الفيلم وهو على قدر كبير من ضبط النفس، وتنحية الانفعالات تماماً، فمنذ البداية ونوبات سعال الربو لا تفارقه حتى النهاية، من دون أن يخرج عن طوره إلا في بوليفيا عندما يحرن الحصان بينما هم محاصرون، عندها يفقد صوابه ويمضي بطعن الخيل بنوبة غضب عارمة. فيلم «تشي» انتاج ضخم يوظف فيه سودوربورف حرفيته العالية لتوثيق حياة غيفارا منذ وصوله مع فيديل كاسترو ورفاقه على متن قارب حملهم من المكسيك إلى جبال سييرا في كوبا، والتي بدأوا منها حرب عصابات ضد نظام فولجنسيو باتيستا، إلى إلقاء القبض عليه في بوليفيا وإعدامه. وعليه فإنه يستكمل غيفارا في فيلم المخرج البرازيلي والتر سالس «مذكرات دراجة نارية» انتاج عام 2004 عن حياته في شبابه والبذور الأولى لنزوعه الثوري والتمردي، ويبعد تماما الفيلم الفاشل المليء بالكليشهات الجاهزة والمشوهة، والذي أخرجه ريتشارد فليشر عام 1969 وحمل عنوان «تشي» أيضاً وجسد فيه عمر الشريف شخصية غيفارا.

تويتر