سيـد حجاب: نعيش بلا مرجعيات ثقافية

سيد حجاب. من المصدر

سيد حجاب شاعر من شعراء العامية المصرية المعروفين، وصاحب رؤية وموقف وفكر، لم يتخل طوال مسيرته الممتدة من الستينات وحتى الآن عن أن تكون قصائده صوت الإنسان البسيط، يكتب قصيدته أو أغنيته ليتواصل مع أهله وناسه على اختلاف شرائحهم وفئاتهم الاجتماعية، تواصل لا تعالي، يكتب منهم وفيهم وإليهم، أثرى الأغنية العربية بأغنيات يرددها الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، أغنيات توزعت بين الغناء والأعمال الدرامية، سواء للسينما أو للتلفزيون أو للمسرح، أغنيات مسّت صميم الوجدان ليس لجمال كلماتها وصورها وحلاوة صوت مغنيها، ولكن لأنها تحمل هموم وشجون الوجدان المصري والعربي بصورة عامة، ولسنا بحاجة لرصد أو الإشارة إلى أعماله باعتبار أنها تذاع ليل نهار بين إذاعات وتلفزيونات العالم العربي.

ويقول حجاب عن بداية مشواره المتواصل منذ 40 عاماً «ولدت في شهر سبتمبر عام 1940 في بلدة المطرية محافظة الدقهلية، على ضفاف بحيرة المنزلة، مدينة صيادين كبيرة، في طفولتي كان تعدادها حوالى 40 ألف نسمة، بلدة جميلة أشبه بجزيرة، معظم أهل البلد صيادون، أنا من أسرة فيها الميسورون وفيها المستورون وفيها الفقراء الصيادون، المستورون كأهلي وأسرة أبي وأمي بالكاد تعلموا لبعض الوقت في الأزهر وخرج من بينهم متعلمو الأسرة، بالإضافة إلى متعلمي الفرع الميسور، بعضهم أكمل تعليمه في الأزهر والبعض مثل والدي لم يستكمل تعليمه، لكن تخرج في الأزهر مثقفاً مستنيراً، كان ضمن قلة قليلة حرصت على تعليم أولادها والبنات خصوصاً، منهم عمي عباس عصفور والد الدكتور محمد عصفور، القانوني الشهير»، وأضاف «كان والدي منفتحا على الثقافة، في البيت مكتبة، ربما كان شاعراً، كنت أعرف أنه شاعر لكن لم يصادفني له شعر، كان يحفظ المعلقات السبع، واكتشفت موهبتي الشعرية المبكرة في جلسات المطارحة الشعرية التي كان يعقدها لنا نحن في البيت، يقول بيتاً شعرياً والابن التالي له في الجلسة يأخذ قافية البيت ليبدأ بها بيتاً شعرياً آخر».

وأوضح حجاب «في فترة لاحقة حدثت موجة وباء الكوليرا، فكان هناك حجر صحي في البيت، كانت فرصة أن ألتهم مكتبة أبي التي كانت تضم كتباً فوق مستوى فهمي، قرأت يتيمة الدهر للثعالبي، والأغاني للأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبدربه، وخزانة الأدب للبغدادي وغيرها، أعتقد أنني فهمت قليلاً جداً مما قرأت، لكن كنت مندفعاً للقراءة والامتلاء بهذه الموسوعات الشعرية والأدبية التراثية».

كفاح مسلح

واستطرد حجاب «بعد فترة وأثناء الكفاح المسلح ضد الإنجليز في منطقة القناة استشهد طفل من سني تقريباً اسمه نبيل منصور، دخل مع الفدائيين قاعدة من قواعد النيفي (البحرية الانجليزية)، وتم إشعال القاعدة، لكن على ضوء الحريق شوهدوا وأطلق عليهم النار فأصيب من أصيب واستشهد من استشهد، وكان الطفل من بين من استشهدوا، وكالعادة أيامها خرجنا في مظاهرات، «السلاح السلاح»، «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، لكن بعد العودة من المظاهرات شعرت أن شحنة الغضب والغيظ لم تخرج بالكامل فكتبت أول قصيدة في حياتي وكان عمري وقتها 11 عاما، قال لي والدي يومها: يا ابني أنت شاعر بالسليقة، وهذه السليقة ينبغي صقلها بالدرس، قلت له: كيف؟ فقال: سأعطيك دروساً في العروض، وبالفعل بدأ يدرس لي كتاباً كان مقرراً على الابتدائية الأزهرية وقتئذ اسمه الكافي في العروض والقوافي»، وقال «عندما بلغت سن الـ 16 نشر لي الشاعر الراحل فوزي العنتيل قصيدة بالفصحى في بريد الشعراء في مجلة الرسالة الجديدة، بعد ذلك بثلاث سنوات قدمني الناقد محمد مندور في برنامج كتابات جديدة التي كانت تقدمه سميرة الكيلاني في إذاعة البرنامج الثاني، ثم قدمني الناقد عبدالقادر القط في مجلة كان يصدرها سعد وهبة اسمها «الشهر» وقدم لي في أحد أعدادها قصيدة اسمها «ثلاث أغنيات إلى البعيد»، وقبيل عمر الـ 21 كنت قد التقيت مع الشاعر صلاح جاهين وتحددت مسيرتي بالكتابة بالعامية، لا أرفض الفصحى حيث أكتبها بين الحين والحين، لكن اللغة الأساسية التي أحب وأحس بنفسي وبالآخرين داخلها أكثر هي العامية.

صلاح جاهين

وعن مرحلة ما بعد لقائه مع الشاعر صلاح جاهين أضاف حجاب «قدمني الى صلاح جاهين صديقنا الراحل فؤاد قاعود، أخذني إليه في بيت الموسيقار الراحل سليمان جميل أخو الفنانة فايدة كامل، كان موسيقاراً مهماً، كان جاهين وسليمان يلحنان أغنية عن قصيدة للشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي اسمها مصرع لومومبا، كان جاهين يفسر القصيدة لسليمان حتى يحسّن تلحينها، ذهبنا إليهم في جلسة العمل هذه، وأثناء الاستراحة عرّفني قاعود إلى جاهين الذي طلب أن ألقي بعض قصائدي، سمع أول قصيدة وهو متجهم متكور، بعد أن أنهيت القصيدة أشار إلي بيده كمان قصيدة، أنا لم أفهم هل القصيدة أعجبته أم لا؟ فقلت قصيدة أخرى وكان يسمع بالتجهم نفسه والتكور، أنهيت القصيدة فأشار طالبا أخرى، ولا أزال لا أفهم هل القصيدة أعجبته أم لا؟ بعد القصيدة الثالثة رأيت هذا الكيان المتجهم المتكور ينط مثل طفل صغير، ويأخذ فؤاد قاعود بالحضن، ويقول له: بقينا كتير يا فؤاد صلاح جاهين هو المخلص بالنسبة لي، هو البشارة والصوت الصارخ في البرية الذي بشر بالقادمين من بعده في طريق شعر العامية».

الإيديولوجيا والشعر

وعن الستينات والسبعينات وأثرهما المباشر في تجربته أشار حجاب الى أن معركة، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، والكفاح المسلح ضد الإنجليز، أثرت في تشكل وعيي، وكان هناك سعي للمعرفة بشكل مبكر من خلال الإخوان المسلمين، أو حزب مصر الفتاة، ثم من خلال الانخراط في صفوف المشروع الناصري، ومنظمة الشباب، الحرس الوطني، كل هذا شكل جزءا كبيرا من الموقف الشعري داخلي من الحياة وفي فترة من الفترات كنت أنتمي إلى بعض الفصائل اليسارية، التي أتصور أن فكرها وتحليلها للواقع لا يزال حتى الآن صحيحا وسليما، كنت أعتبر الإيديولوجيا جزءاً من النسيج الثقافي، وأن الفكر السياسي أو الاقتصادي كلها عناصر ثقافية تغذي الشاعر لا تُخضعه، وبينما اندفع بعض الآخرين المنتمين سياسياً إلى الخطاب المباشر شعريا أو الخطاب الذي تغلب عليه الروح الإيديولوجية، كان شعري دائما مختلفاً عنهم بأنه يهتم بالروح، في تلك الفترة اضطررت للخطاب الشعري المباشر والمحرض، لأنه كانت هناك كارثة مقبلة مازلنا نعيش في أعقابها على الرغم من عبور قناة السويس وحتى الآن، أظن أن هذا لون أغنياتي بملمح سياسي خفي ومبطن يظهر في كل أعمالي، ففي المقدمة الغنائية لمسلسلات «أربيسك»، و«الليل وآخره» و«حدائق الشيطان» و«حارة الزعفران»، وغيرها يظهر هذا الإحساس بالخوف السياسي.

أزمة اجتماعية

وحول وضع شعر العامية في مصر أوضح أن هناك أزمة مجتمعية شاملة وأزمة في تعلم الفنون لدينا مثقفون كثر، لكن ليست لدينا مرجعية ثقافية واحدة، بعض مرجعيتنا الثقافية تعود إلى الثقافة العربية أو الإسلامية، وإلى أكثر جوانبها تخلفا، والبعض يعود إلى الحضارة الغربية بفكرها العلمي والمادي، وبعضها يعود للجناح الشرقي للحضارة الغربية ممثلة في الفكر الاشتراكي والفوضوي، لكن ليست لدينا مرجعية ثقافية واحدة عند طبقة النخبة، من أجل ذلك نرى هذا الاختلاط الشديد، نحن غير متفقين في مجتمعنا وفي واقعنا بفضل تقاعس المستنيرين عن أن ينوروا غيرهم واكتفائهم بأن ينوروا المستنيرين فقط، لم يحدث عندنا مزاج شعبي عام ولا ثقافة شعبية عامة حديثة، وبدأ الكثير من الكتاب يبدعون بلا صدق اعتماداً على مزاجيات النقد و بدأت تزداد عزلة الثقافة عن الناس، وانكفاء الشعراء على ذواتهم، وبدأ الاهتمام بما يسمونه لغة الجسد وما شابه، وزحفت هذه الموجة حتى على شعراء العامية، وظهرت قصيدة نثر عامية، ولم يكمل شعراء العامية مشوارهم ليلتحقوا بثقافة شعبهم ويؤثروا فيها، وهذه هي في تصوري مأساة لن نخرج منها إلا بمشروع نهضوي تكون الثقافة والتربية والتعليم في أساسه.

تواصل

قال الشاعر سيد حجاب «المؤسسون الحقيقيون لنهضتنا كانوا مهمومين بالتواصل مع شعوبهم، حيث تواصل إسماعيل صبري مع الشعب من خلال الغناء، وأحمد شوقي من خلال أعماله المسرحية وأشعاره للأطفال وأعماله الغنائية لعبدالوهاب، وشعراء كصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، كتبوا قصائد تتواصل مع ثقافة الشعب من خلال اعتماد لغة الحياة اليومية، ثم بعد قليل تقاعسوا واكتفوا بأن يكونوا شهوداً على العصر لا مؤثرين في ثقافة الشعب، أصبحوا شهوداً وشعراء كباراً وعظاماً، لكن تأثيرهم في المزاج العام والثقافة العامة وإنضاج ما يسميه الإنجليز الفهم العام لدى الشعب ليس لهم تأثير في ذلك».

تنشر بالتزامن مع جريدة «السفير» لبنان

تويتر