الأحياء الحقيقيون هم الكلمات

هنري ليفي

منذ أشهر، دارت في باريس شائعات عدة حول مبارزة فكرية بين شخصيتين ثقافيتين عملاقتين ستتجسّد قريباً في كتاب مشترك لهما. واعتقد العديد أنها مجرد مناورة أخرى من مؤسسات النشر، واعتبر البعض أن عدم الكشف عن هوية المتبارزين يؤثّر سلباً في الحملة الإعلامية المهيئة لهذا الحدث الأدبي البارز. ذهب البعض الآخر الى مقارنة مسبقة بين «جدل القرن الواحد والعشرين» ومباراة الشطرنج التي جمعت بين الروسي كاربوف والأميركي فيشر عام 1975 والتي لُقّبَت في حينها بـ«مباراة القرن 20». قبل أيام فقط على صدور كتاب «عدوان علنيان» (Ennemis Publics). في الأول من نوفمبر الحالي، كُشف عن هوية مؤلفيه، الكاتبين ميشال ويلبك (Michel Houellebecq) وبرنار. هنري ليفي (henri Lvy). هذا الكتاب المنشور بالتضامن بين داري النشر فلاماريون (Flammarion) وغراسيه (Grasset) ما هو إلا ديوان رسائل إلكترونية تبادلها المؤلفان بين شهري يناير ويوليو 2008

للوهلة الأولى، ليس بين المراسلين نقاط مشتركة عدة، فبرنار. هنري ليفي، الذي اشتهر في السبعينات من خلال مشاركته في تيار «الفلسفة الجديدة» المقرّب من الماركسية الماوية المتشددة، عاد شيئاً فشيئاً الى روحية إنسانية، وحافظ على فسحة ثابتة في العالم الثقافي والسياسي الغربي من خلال تحقيقاته الصحافية في ساراييفو ودارفور، كما في الشيشان وفي روندا، إضافةً إلى مناهضته جميع أشكال العداء للسامية. هذه الشخصية التي كانت مقربة في آنٍ من بيار فكتور، وجان . بول سارتر من أندريه مالرو كما من حركة «اليسار البروليتاري»، وضعت في بداياتها روايات لم تنَل تقديراً نقدياً وشعبياً واسعاً، فيما أعمالها النقدية، أبرزها «قرن سارتر»، و«آخر أيام بودلير»، فرضت التوافق حول عمقها التحليلي وجودة كتابتها. أما ويلبك، الذي درس الهندسة الزراعية وعمل في إحدى لجان المجلس النيابي الفرنسي، فقد عاش أعواماً طوالاً في ظلّ انعدام الشهرة الذي وُضِع تحته الشعراء، والشعر معهم، خلال النصف الثاني من القرن الماضي. بعد بحث ممتاز حول الكاتب هاورد فيليب لوفكرافت ورواية أولى بعنوان «امتداد رقعة الصراع» عام ،1994 تحول ويلبك الى أيقونة أدبية مع رواية «الجزئيات الأوّلية»عام 1998 أحد الأعمال الفنية النادرة التي، بالوقت نفسه، تقفل وتبرّر القرن الـ20 وضع أيضاً ويلبك في عام 2005 رواية سوف يذكرها القرن الحالي، بعنوان «إمكانية جزيرة».

السهر في موسكو

يستهل ويلبك «الصراع» مع ليفي على النحو الآتي: «كل شيء، كما يقال، يفرّق بيننا، باستثناء أمر أساسي واحد: أنتَ، تماماً مثلي، شخص حقير فعلاً»، سرعان ما نعت ويلبك محاوره بالمناور الإعلامي، المقرب من رجال السلطة، بالغني لدرجة الاشمئزاز، بالرمز المحوري لمصطلح «يسار الكافيار»، حتى وصف نفسه بالعدمي، الرجعي، الكلبيّ، العنصري والمناهض للنساء. لكن الجدل لم يأخذ في أيّ حين طابع المواجهة الشخصية، لا بلّ وجد المتراسلان نقطة تشابه أساسية لأسباب مختلفة، يمثّل كل منهما ضحية تركيبات صحافية ونقدية تجمع بين الكراهية المطلقة، الذمّ والتشهير بشخصيهما، كما انعدام الاعتراف بموهبتيهما، لدرجة أن عنوان كتابهما لم يعد يلخّص علاقتهما ببعضهما بعضاً، بل يصف موقعهما ككبشي محرقة.

«حتى إذا قدّمت جميع أنواع المبرّرات، سوف أُؤجّج صورتي كبورجوازي يجهل المسألة الاجتماعية ولا يهتم بمعذّبي الأرض إلاّ للقيام بحملات إعلانية لتسويق نفسه». يحاول ليفي، الذي عاش مآسي الشهرة على مدى ثلاثة عقود، أن يؤازر ويلبك، خاصةً بعدما علم أن والدة هذا الأخير، التي رفضت الاهتمام به لدرجة أنه ترعرع في منزل جدّيه، تتهيّأ لنشر كتاب مدمر حول «ابنها»، تكشف فيه العديد من الحقائق المفبركة حوله. سوف يخوض معظم النقاد في الاعترافات المتبادلة للكاتبين، حيث يسرد كلّ منهما مقتطفات واسعة من طفولتهما، كما العديد من الحوادث والمصادفات التي لا يزالان يذكرانها. سوف تستغل الماكينة الإعلامية المعلومات الشخصية المتعلّقة بالكاتبين من أجل تدمير أعمالهما، كون النقد الصحافي والجامعي فقد التمييز بين السيرة الذاتية والأدب، بين حياة الكاتب وأعماله، لذا يحاول باستمرار تفسير هذه الأخيرة من خلال الأولى. بهذه الطريقة، يقتل النقد الخيال ويجعل من الأدب مجرد شهادة، في دينامية أورويلية نسبةً الى الكاتب جورج أورويل جديدة، متزامنة مع تلك التي تحصر القيمة الأدبية لعمل معيّن بالاستنتاجات السياسية التي يولّدها. بعبارةٍ أخرى، سوف يتجاهل عالم النقد الأفكار التي تبادلها الكاتبان والتي، إن في تنوّعها وإن في مركزيتها، تلخّص وجهة نظر كل منهما الفلسفية، السياسية والأدبية.

يعترف ليفي بأن الأسباب التي تحمله على الالتزام السياسي لا تنحصر فقط بتلك الأخلاقية على وجه عام، كالشعور بالأسى والغضب أمام مشاهد البؤس في العالم. يستعرض أيضاً ليفي هواه للمغامرة، للذهاب الى حيث تنهال القذائف ويرنّ الرصاص، لسياحة الخراب. من جهة أخرى، لا يخفى على ويلبك ميله للإنجاز، للقيام بما لا يقوم به الآخرون، أو على الأقل للقيام به بشكل فريد من نوعه. يحاول ليفي تجسيد فكرة «الحياة الكبرى» التي تتخطّى الحياة البسيطة ومشاريعها الصغيرة، فالإنسان لا يكبر إلاّ من خلال علاقته بالأمور الكبرى.

الموجود الأكثر وجوداً

لا بدّ، بين كاتبين، أن ينال الأدب حصة الأسد في نقاشاتهما، غير أن الجدل في هذا الإطار لم يأخذ اتجاه العرض للحجج والحجج المضادة، بل تحوّل الى تبادل تراكمي أضحى فيه عدم جواب الأول على نظريات الثاني بمثابة الموافقة الضمنية عليها. لا شكّ في أن الأدب هو الموضوع الأساسي لكتاب «العدوان العلنيان»، فهو الموضوع الذي يمثّل هاجس مؤلفيْه الأول. يتّفق ليفي وويلبك على الفصل بين الشخص والشخصية. حاول ليفي أن يكتب روايات ذات شخصيات لا تمت له بصلة، فيما تفوّق ويلبك الأدبي يكمن في تحويل ما قد يبدو خاصاً بشخصه الى «ذاتيات موضوعية» تشمل منعطفاً أساسياً في تاريخ الغرب، ألا وهو فترة ما بعد العصرية، مضفياً على شخصياته طابعاً حضارياً عاماً. بالنتيجة، الرواية الجديرة باسمها هي التي تحول شخصياتها الى رموز. أما كمية الحقيقة «حقيقة السيرة الذاتية» التي يدخلها الكاتب على شخصياته فليس لها أيّة أهمية على النتيجة الأدبية النهائية.

الكُتُب الأساسية لدرجة تحوّلها الى تأسيسية هي، وفقاً لليفي: الثنائي المؤَلَف من الإيلياد والأوديسة للكاتب اليوناني هومير، هذا العمل التي يعتقد نيتشه أن وجوده هو الوسط الذي نشأت حوله الحضارة الغربية، بعهديها القديم والجديد، بحث لوكريس، «الكوميديا الإلهية» أي ثلاثية دانت، أعمال شكسبير ودوستويفسكي. غاب عن هذه اللائحة سرفانتس، ولكن خصوصاً بأرمنيد، الذي وضع نصّاً يمثل بالوقت نفسه أول بحث فلسفي في تاريخ البشر وإحدى أقدم وأجمل القصائد التي لم يبقَ منها إلاّ بعض المقاطع. يكتفي من ناحيته ويلبك بهذا الديوان المشترك للعديد من الكتّاب، المتجانس والمتضارب في آنٍ، الذي يحمل عنوان التوراة، أي «أعظم عمل أدبي على الإطلاق». أما في الكتّاب أنفسهم، فيعتقد ويلبك أن سيلين هو كاتب مضخّم، تتأرجح موسيقاه الأدبية بين «الجاز» والأغنية الشعبية الفرنسية في بداية القرن الـ،20 فهذا الأسلوب لا يقارن مع بروست ولا مع موسيقى «الروك اند رول» التي ألّفها باسكال ولا مع التركيبات السمفونية الرفيعة لشاتوبريان ولوتريامون يتّفق خصوصاً الكاتبان على اعتبار أبيات بودلير أعظم ما كُتِب باللغة الفرنسية، محتلا هذه المرتبة على حساب رامبو.

الكتب أيضاً تموت

قال ويلبك إن الكُتُب أيضاً تموت، وبالتالي على الكاتب ألا يضع كُتُبا جديدة، بل أن يعيد كتابة الكُتُب. الكُتُب الأصلية أقل بكثير من الكُتُب المكتوبة. هناك كلمات ميتة، وأخرى حيّة، قد تكون في جملة واحدة: يتشارك ليفي هذا الرأي مع الكاتب يانيك إينيل لكنّ هناك نوعا أدبيا، حيث كلّ الكلمات حيّة، هذا الأدب اسمه شعر. كما كان يدرك ذلك هيدغر الكلمة الحيّة هي تلك التي تحافظ على قدرتها الدلالية القصوى، هي الكلمة التي لا تزال تحدث المفعول نفسه الذي أحدثته حين ظهرت للمرّة الأولى. فقط من خلال الكلمات يمكن للأشياء أن تبدو كأنها وُجِدَت منذ لحظة، كأن لم يرها أحد من قبل، وإن الذي يقرأ الكلمة يتحوّل حكماً إلى المشاهد الأوّل للواقع الذي ترمز إليه هذه الكلمة، والذي يكتب الكلمة يتحوّل حكماً الى خالق للواقع الذي تصفه. هذا ما يجعل من الرواية، التي يستحيل أن تتضمّن حصراً كلمات حيّة، نوعاً ثانوياً مقارنةً مع الشعر، هذا ما يجعل من الشعر ما هو موجود أكثر من الوجود، ما هو الأكثر وجوداً. لهذا السبب، «بالنسبة للشاعر لا يملك الروائي أيّ حدّ أدنى من الأسلوب، لا يمكن أن يكون له أسلوب».


❊ تنشر بالتزامن مع جريدة «السفير» لبنان

تويتر