يوظف الغموض أروع توظيف

«الأب».. تحفة سينمائية عن الخَرَف من منظور جديد

صورة

معظم الأفلام التي تناولت شخصيات مصابة بالخرف، تركز على تأثير هذا المرض العقلي في حياة الأشخاص المحيطين بالشخصية الرئيسة، لكن The Father (الأب) يقدم وجهة نظر الشخصية نفسها، وكيف تتفاعل مع محيطها.

لتحقيق هذا الشيء، فإن المخرج الفرنسي، فلوريان زيلير، الذي يخرج الفيلم من نصّ كتبه مع كريستوفر هامبتون، اقتباساً من مسرحية زيلير نفسه، يستعير فكرة من صانع الأفلام الإسباني/‏المكسيكي لويس بونيويل، وهي استخدام ممثلين عديدين لأداء الدور نفسه.

وهذا يعطي المشاهد منفذاً إلى عقل الشخصية المشوش، والنتيجة مؤثرة جداً، والنهاية التي نراها من وجهة نظر محايدة تحطم القلب. أكثر من سيتأثر بهذا الفيلم هؤلاء الذين عاشوا تجربة الحياة مع مريض بالخرف بأنواعه المختلفة، سواء كان الزهايمر أو خرف الشيخوخة.

ترتبط ذاكرة العقل البشري ارتباطاً وثيقاً بشخصية الإنسان، فشخص بلا ذاكرة هو شخص بلا هوية، لا يعرف نفسه ولا يعرف أين يعيش ولا يعرف عائلته من حوله، شخص بلا ذاكرة قد يقضي حاجته في ملابسه لأنه لا يتذكر أين الحمام ولا حتى يعرف أنه بحاجة إلى حمام.

بل أسوأ حتى من طفل جاء إلى الدنيا ليتعلم كيف ينظف نفسه، لأن الطفل سيتعلم ويتذكر، وأما المصاب بالخرف فلا فائدة من تعليمه وتذكيره.

تجسيد النجم القدير، آنثوني هوبكنز، لدور «الأب» المصاب بالخرف يعد تجسيداً مثالياً، هناك أمور واضحة بالنسبة له، لكن انفصاله عن الواقع وواقع الشخصيات من حوله يتزايد بتقدم أحداث الفيلم.

يروي فيلم «الأب» قصة هذا الراوي الذي لا يمكن الاعتماد عليه لفهم ما يحدث، فهو مسنّ نرى أحداث الفيلم من عينيه الحزينتين، لأن ابنته وهي من تعطيه كامل الاهتمام، آن (أوليفيا كولمان)، تبلغه أنها ستغادر إلى باريس مع صديقها الجديد.

تَعِد آن والدها آنثوني - واسم الشخصية كما اسم ممثلها - بأنها ستواظب على زيارته. لا يكتفي آنثوني برثاء مغادرة ابنته، لكنه يتساءل لماذا توقفت ابنته الأخرى الصغرى المفضلة عن زيارته، تستعين آن بممرضة تدعى لورا (إيموجين بووتس) للاعتناء بوالدها بعد مغادرتها.

ورغم تردده في مقابلة الممرضة إلا أنه يتعلق بها بسرعة لاحقاً، وفي الوقت نفسه تختلط الأمور على آنثوني عندما يرى رجلين في المنزل، الأول يجسده مارك غاتيس والثاني روفوس سيويل، وكلاهما يدعي أنه زوج آن، لكن كيف تكون آن متزوجة منهما إذا كانت تريد المغادرة إلى باريس للاستقرار مع رجل ثالث، هذا ما يدور في عقل آنثوني المشوش! زيلر - وهذه تجربته الإخراجية الأولى - يوظف الدهاء ليضع الفيلم على خط غير واضح بين التشويق النفسي والدراما العائلية، رغم أننا نعلم بالضبط ما يحدث إلا أن عناصر الغموض تفتح باباً لأن يكون آنثوني يتوهم حالة الخرف المصاب بها، من قبل آخرين لهم مصلحة في دفع الرجل إلى الجنون.

عندما تأخذ أوليفيا ويليامز فجأة دور آن من أوليفيا كولمان، فإننا نتشوش ونتخيل أن الرجل الذي تتدهور ذاكرته ربما يكون ضحية مؤامرة عائلية للاستيلاء على أمواله ومنزله وتركه في دار مسنين، خصوصاً أن الميك أب وطريقة تسريح الشعر، يجعلان الممثلتين متشابهتين إلى حد كبير.

هذا الفيلم سيسبب إزعاجاً لأشخاص كثر، لأن توصيف الشخصية التي كتبها زيلر مقتبس من شخصيات حقيقية، والألم يظهر واضحاً على مُحيا آن، أما بالنسبة للشخصيات الأخرى فمن الصعب القول من هم أو من يمثلون. المشهد الأخير يكشف بعض الغموض لأن الفيلم يتراجع ويوضح أموراً ويحلّ العناصر الغامضة، المشهد الأخير يشبه كثيراً آخر 20 دقيقة من تحفة ديفيد لينش الكلاسيكية «ملهولاند درايف» 2001. في ذلك الفيلم يُدخل لينش حالة الوعي لبطلته لإنهاء اللاوعي، بينما هنا يوظف زيلر الخدعة نفسها تقريبا للتفريق بين ما رآه آنثوني في حالة مخففة من الخرف، وما يراه أثناء اشتداد الخرف عليه.

أداء هوبكنز رائع ويحطم القلب، عن رجل كان قوياً في شبابه تحوّل إلى مُسنٍّ بلا هوية بسبب الخرف. وبالنسبة للذين يظنون أن الاعتناء بمريض الخرف أصعب على الشخص المعتني من المريض نفسه، فالفيلم يهز كيان هذه الفكرة ويهدم أساساتها.

آنثوني يعاني انقلاب الحياة عليه، خائف جداً وهو في مكان آمن، يشعر بالغدر لأن ابنته تركته وهو من رباها واعتنى بها طوال سنين حاجتها إليه، يشعر بالوحدة لأن الجميع يتخلى عنه، يتذكر أنه كانت له أمّ ويريدها بجانبه، ينتحب بكاء لأنه يشعر بأن الجميع تخلى عنه وهو في أشد الحاجة إليهم لأنه في أضعف حالاته، يشعر بأنه يتعرى من كل شيء ويتخبط في ظلمات ذاكرته ولا يعرف حتى من هو. أقرب فيلم إلى «الأب» من ناحية الموضوع هو Still Alice عام 2015، الذي أتى بـ«أوسكار» أفضل ممثلة لجوليان مور. يمكننا القول بأريحية إن فيلم «الأب» هو الأقوى والأكثر ألماً وتأثيراً في نفس المشاهد، نظراً إلى قوة إخراجه، ولتقديمه الخرف من وجهة نظر المريض، وبسبب أداء القدير هوبكنز الذي سيبكي من يشاهد الفيلم إن كان له قلب.

«الأب» مرشح لنيل أرفع جائزة في حفل «الأوسكار» الشهر الجاري وهو يستحقها، هذا فيلم رائع ويستحق المشاهدة، هذه تحفة سينمائية خالدة في ذاكرة السينما، ومرة أخرى نقول هذا الفيلم سيكون مؤلماً جداً لمن عايش أو تعامل مع مريض بالخَرَف.

• «الأب» مرشح لنيل أرفع جائزة في حفل «الأوسكار» الشهر الجاري وهو يستحقها.

• أداء هوبكنز رائع ويحطم القلب، عن رجل كان قوياً في شبابه تحوَّل إلى مُسنٍّ بلا هوية بسبب الخَرَف.

للإطلاع على الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر