متعدّد الأفكار رغم محدودية المكان

«ذا بلاتفورم».. واقعية أو سخرية في أزمة «كوفيد-19»

صورة

ما أغرب هذا العالم! لا نظن أبداً أن عبارة: «هذا يحدث في الأفلام فقط» ستبقى بعد أزمة «كورونا» المستجد (كوفيد-19). لم يعدّ هناك فرق بين الأفلام والواقع. ماذا لو تساءلنا عن ردود الأفعال على فيلم The Platform، «المنصّة» منذ 10 أعوام أو حتى منذ عام، وهو الفائز بجائزة الجمهور في مهرجان تورنتو السينمائي 2019، ومن إنتاجات «نتفليكس» الأصلية؟

كان الفيلم لو طرح منذ عقد أو حتى منذ عام سيُعرض بشكل محدود سينمائياً وتحديداً عروض منتصف الليل، ثم سيطرح على أقراص DVD وسيخلق حالة هوس بين محبي هذه النوعية من الأفلام.

هذا الكلام - كما أسلفنا - هو الوضع منذ 10 أعوام أو عام. لكننا في 2020، العام الذي تغيّر فيه العالم بشكل كامل جرّاء الوباء العالمي، والمستفيد الأول من حملة البقاء في المنزل هي منصّة «نتفليكس»، التي خفضت من سرعتها ليتمكن كل مشتركيها من كل أصقاع الأرض من الاستمتاع بالمحتوى طوال اليوم، خصوصاً في هذه الفترة الاستثنائية.

فكرة الفيلم ذكية بشكل لا يمكن إنكاره. تدور أحداثه بشكل كامل في مبنى وكأنه من المستقبل يستخدم مخيّماً ويسمى الحفرة. يمتد المبنى لمئات الطوابق، وهو في الحقيقة سجن يضم كل طابق منه سجينين فقط يقبعان على الأرض.

كل يوم، تنزل منصّة من خلال فتحة ضخمة مصممة لتخرق كل غرف النزلاء من منتصف كل غرفة باتجاه واحد، من الأعلى إلى الأسفل، هذه المنصّة تحمل طعاماً للسجناء يتناولونه مرة واحدة في اليوم ولفترة محددة. في المستوى الأول يحصل السجناء على الطعام بمجرد خروجه من المطبخ، وفور ملئهم بطونهم، تهبط المنصّة بفضلات الطعام للمستوى الثاني، فيأكل هؤلاء المتبقي لهم، لتنتقل المنصّة إلى المستوى الثالث فالرابع فالخامس.. وهكذا دواليك.

وعندما تصل إلى المستويات الدنيا فلا يتبقى للسجناء شيء. طبعاً الفكرة أنه لو نزلاء المستوى الأول أو الأعلى اكتفوا بحصتهم لما جاع أولئك الذين بالأسفل. ومن يحاول من السجناء أن يحتفظ بشيء من الطعام للتخزين، فإنه يُعاقب بأن غرفته فوراً تسخن أو تبرد بشدة إلى درجة مميتة.

يروى الفيلم من وجهة نظر غورينغ (إيفان ماساغوي)، الذي تطوّع لدخول السجن ليتخلص من عادة التدخين، وليقرأ كتاباً (كل شخص يسمح له بإدخال غرض معه)، ولا يعرف غورينغ ما الذي ينتظره في الداخل. يشرح له زميله تريماغاسي (زوريون إيغويليور) في الزنزانة عن كل هذه التفاصيل في مشهد البداية في المستوى 48.

الجزئية القاتمة والذكية في الوقت نفسه في الفيلم هي قانون ينصّ على وجوب تغيير السجناء طوابقهم كل شهر. فمن كان سعيداً يوماً ما في الطابق الثامن مثلاً، قد يشعر بالتعاسة في الطابق 133 في يوم آخر. وإذا تساءلت كيف يتمكن أولئك الذين في الطبقات الدنيا من البقاء؟ فالجواب سيكون في مشاهد العنف والدم التي تتوالى على طول الفيلم.

الموعظة الاجتماعية المراد إبرازها في الفيلم واضحة: «إذا ترك الأغنياء ما لا يحتاجونه للفقراء أو الطبقة المتوسطة، سيكون الطعام متوافراً للجميع بصورة كافية». لكن الكاتبين ديفيد ديسولا وبيدرو ريفيرو، والمخرج غالدير غازتيلو أوروتيا ليسوا مكتفين بإبراز هذه الموعظة فحسب، لكنهم يستمرون في توسيعها أو تطبيقها في ظروف مختلفة في السجن ذاته، وكل ظرف يضفي شيئاً جديداً عليها من خلال تغيّر سلوك الشخصيات.

هذا فيلم متعدّد الأفكار الفرعية النابعة من فكرة انعدام العدالة في توزيع الثروات بين طبقات الشعوب، رغم محدودية المكان الذي تقع فيه أحداثه. وكلما تغيّر المكان، أي من زنزانة إلى أخرى، تتغيّر الفكرة جزئياً أو تظهر نتائجها. والفكرة الأكثر إثارة بالاهتمام هي تغيّر حياة السجناء بتغيير طوابقهم، خصوصاً الذين في الطوابق الدنيا، حيث تتغيّر أوضاعهم في الطوابق العليا.

«المنصّة» فيلم لا يتردد في إبراز مشاهد بشعة غارقة في الدماء وسط أجواء رعب، خصوصاً تجاه لقطات النهاية. يعيد هيكل الفيلم إلى الذاكرة أفلاماً مشابهة، مثل «المكعب» وSnowpiercer عام 2013 للكوري بونغ جون هو - صاحب فيلم «طفيلي» - الحائز أوسكار أفضل فيلم عالمي في النسخة الأخيرة من حفل الأوسكار. الفيلمان الأخيران وهذا الفيلم كلها تناقش الفكرة نفسها في قوالب مختلفة.

ما يجعل «المنصّة» فيلماً فاعلاً ومؤثراً بالشكل الصحيح، هو أنه مستقل بفكرته ومعالجته عن بقية الأفلام، بمعنى أنه ليس إعادة تدوير أو خليط من أفكار أخرى، لكنه فيلم بفكرة جريئة ومتفرّدة ومتميزة ترسخ في ذاكرة من يشاهده. وبالطبع بعكس الأفلام المذكورة في الفقرة السابقة، يبقى «المنصّة» فيلماً أشد واقعية من كل ما سبقه، بسبب تزامنه مع الوباء الذي يجتاح العالم هذه الأيام.

الفيلم لا يلمح ولا يشير ولا يعرض فكرة على استيحاء، بل يقولها صراحة ودون تردد وبوضوح تام لا يمكن إنكاره. لا أحد يستطيع اتهامه بالمبالغة أو ادّعاء عدم الواقعية، أو بعبارة (هذا يحدث في الأفلام فقط).

يعكس «المنصّة» سلوكاً بشرياً نراه يحدث أمامنا اليوم في نشرات الأخبار التي عرت مجتمعات العالم الأول من مثاليتها و شعارات حقوق الإنسان الزائفة، فهاهي دول متقدمة تستولي على مواد طبية من دول أحوج منها، ولو واجهت دولة نقصاً في مواد غذائية فلن تتردد في الاستيلاء على شحنة غذائية متجهة إلى دولة أخرى.

نعم.. «المنصّة» هو الواقع وليس الخيال، ومن لا يصدق هذا الكلام فليشاهد نشرات الأخبار. «المنصّة» هو انعكاس لما يحدث في عالم اليوم. من استيلاء الناس على ورق الحمامات إلى سرقة شحنات غذاء إلى مزايدة دولة على سعر شحنات طبية متجهة إلى دولة أخرى!

سؤال نود طرحه في عام 2020، عام الوباء، ما الهدف من مشاهدة فيلم مخيف ونحن نعيش واقعاً أكثر رعباً؟ الجواب هو لأنه الفيلم الذي لا يجب تجاهله. بكلمات أخرى، «المنصّة» إما أن يكون الفيلم المثالي لهذه الفترة، أو أنه الفيلم الساخر من واقعنا في أزمة «كوفيد-19».

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.


يعكس سلوكاً بشرياً يحدث اليوم في نشرات الأخبار، التي عرت مجتمعات العالم الأول من مثاليتها.

ما الهدف من مشاهدة فيلم مخيف ونحن نعيش واقعاً أكثر رعباً؟ الجواب هو لأنه الفيلم الذي لا يجب تجاهله.

تويتر