تجديد لأفلام شخصيات تجنح إلى الجنون

ويليم دافو وروبرت باتنسون يضيئان ظلمات «المنارة»

صورة

يبدأ فيلم The Lighthouse «المنارة» بشكل كئيب وتأملي في استكشاف الوحدة والعلاقة الشخصية، ودراسة سلوك وأسلوب التواصل بين بطلي الفيلم، قبل أن يتحول إلى رعب. يتدرج الفيلم في التحول إلى نبرة القلق التي هيمنت عليه من المنتصف إلى النهاية، ويوظف وجهة نظر مهزوزة بين البارانويا (الرهاب) ورجحان العقل، خصوصاً عندما يصل إلى منطقة رمادية بالنسبة للمشاهد في ما يتعلق بالحقيقة والوهم.

لو كانت الفقرة السابقة غير مفهومة فهذا شيء طبيعي، لأنها تصف الفيلم من وجهة نظر نفسية.

المخرج روبرت إيغرز (أخرج الساحرة 2016)، ورغبة منه في ترسيخ بعض من الواقعية في الفيلم، عكف على دراسة طرق عمل منارات القرن الـ19 بمنطقة نيوإنغلاند في الولايات المتحدة، وكيفية الحياة فيها قبل أن يبدأ بكتابة النص.

عمد إيغرز إلى تصوير الفيلم بالأبيض والأسود في قرار فني موفق، واستخدام إطار 1.19:1 الشهير من أفلام رعب حقبة ثلاثينات القرن الماضي. ومن المعروف أن أفلام تلك الفترة تحديداً كانت متأثرة بشدة بالحركة التعبيرية التي تسللت إلى هوليوود من سينما الرعب الألمانية.

محتوى الفيلم لا يتناسب مع محتوى حقبة أفلام رعب الثلاثينات (خصوصاً مشهد الحورية)، لكن الأسلوب في حد ذاته يجعل الفيلم صالحاً للمشاهدة في أي زمن. وبالطبع يتفوق الفيلم بمميزات عصره، إذ يستغل التقنيات الصوتية أفضل استغلال، سواء نسمع تزمير المنارة الشبيه بصوت بوق عملاق مرعب، أو أصوات الطيور.

القصة مقتبسة جزئياً من واقعة حقيقية عام 1801، المعروفة باسم تراجيدية منارة سمولز، التي رويت في فيلم كريس كرو عام 2016 بعنوان هذا الفيلم نفسه. لكن إيغرز يترك الدقة التاريخية والتسلسل الزمني لأحداث تلك الواقعة بين حارسين علقا داخل منارة بسبب سوء الأحوال الجوية، ويستخدم الواقعة كنقطة انطلاق فقط لقصة رعب نفسية.

رغم التشابه بين الفيلمين من ناحية المكان، وأجواء الكلوسترفوبيا (الخوف من الأماكن الضيقة)، إلا أن الفيلمين كيانان مختلفان بشكل مذهل، وليس من العدل أن نقول إن منارة 2019 هو إعادة لمنارة 2016.

الحارسان في القصة، العجوز توماس ويك (ويليم دافو) الغيور الذي يحرس مدخل المنارة ولا يسمح لأي كان بالدخول، والشاب إيفريم وينسلو (روبرت باتنسون). يتحدث دافو بلهجة بحارة ومخارج حروفه غير واضحة، وكلامه مثل حشو مليء بتفاصيل غير ضرورية، بهذه الصفات يبرز دافو شخصية مغرورة تفرض نفسها، ولا تبرز ملامحها الإنسانية إلا حين يفرط في الشرب. وينسلو على الجهة المقابلة، صامت ويكره معاملته باستصغار ولا يتحدث عن ماضيه كثيراً. وعندما تبدأ اللامبالاة بينهما بالتحول إلى كراهية، يتولد شعور بأن العنف حتمي، ثم يسرف الاثنان في الشرب ويتبادلان الاعتراف بالحقائق، ويضحكان بصوت عالٍ ويرقصان ويتظاهران بأنهما صديقان حميمان.

وعندما يأتي يوم الرحيل، بالتزامن مع عاصفة هوجاء يستحيل معها الإبحار في قارب، يبدأ وينسلو في فقدان ما تبقى له من عقل و يجنح باتجاه الجنون.. أو هكذا تبدو الأمور. في فيلم يبدو مثل مباراة أداء، ورغم أن هذا أقوى أداء لباتنسون إلا أن دافو يتفوق عليه، لأنه عملياً يعطي أداء لشخصيتين: ويك على سجيته وويك كما يراه وينسلو.

شخصيتا دافو متداخلتان بشدة، ولا نعرف أحياناً أي واحدة التي تظهر. الفيلم يُروى من وجهة نظر وينسلو، وكلما يتخلى عنه عقله لا نتمكن من معرفة إذا ما كان يراه هو انعكاساً للحقيقة أم هلوسة. قوة المنارة تكمن في أداء ممثليه وقوة تفاعلهما، وحالة الرعب التي تتكون من منتصف الفيلم وتستحوذ عليه حتى النهاية.

من الصعب تخيل هذا الفيلم بالألوان، ودون التركيز على الإضاءة والظلال. معظم الوقت اللقطات التي نشاهدها مظلمة بشكل متعمد. رغم أن إيغرز لا يستخدم الإضاءة الطبيعية، لكنه يجعل اللقطات تبدو كأنه يستخدمها، ويتعمد ألا يضيء المشاهد الخافتة ليزيد وضوحها.

يركز إيغرز على تفاصيل كئيبة مثل الكوخ الصغير الذي يتقاسمانه، والعاصفة التي لا تتوقف عند خروجهما من الكوخ، وعدم وجود مكان للمشي بين المنارة والكوخ لأن الأرض صخرية، فضلاً عن طيور النورس المزعجة، التي يقف أحدها، وهو ذو عين واحدة، كأن لديه ضغينة تجاه وينسلو وغير راضٍ عن وجوده في المكان.

فضلاً عن استخدام إيغرز الإطار المذكور سابقاً، وهو كالمربع على الشاشة العريضة، ليحشر شخصياته فيه، وتالياً يزيد من شعور المشاهد برهبة وكآبة المكان الضيق.

ولو تناولنا التفاصيل الصوتية سنلاحظ أن صوت بوق المنارة، الذي يحذر السفن من المخاطر الكامنة أمامها، لا يهدأ أبداً وكأنه صوت مصدره السماء، هذا الصوت بمثابة حجر الأساس في فيلم المنارة، ومن دونه يفقد الفيلم الكثير من زخمه. يحمل الفيلم بعض سمات الأفلام الصامتة (الحوار يبدأ من الدقيقة السابعة)، بالإضافة إلى مشاهد هلوسة وينسلو التي تبدو من فيلم رعب صامت، في الوقت نفسه لو نظرنا إلى طريقة استخدام إيغرز للمؤثرات الصوتية والموسيقى، سيتضح لنا أن هذا الفيلم حديث أكثر من أفلام رعب اليوم.

الدقائق الخمس الأخيرة من الفيلم هي الأكثر رعباً، إذ يتسيدها وينسلو بالكامل، لرغبته في استكشاف مكان في المنارة منعه ويك من دخوله. بشكل عام، يحقق الفيلم أهدافه بوضع المشاهد في وضعية غير مريحة، بعرض تفاصيل تتلاعب بالأفكار أو تشتتها.

أفلام جنوح شخصيات إلى الجنون كثيرة جداً إلى درجة وصمها بالكليشيه، لكن منارة إيغرز يجدد هذا النوع ويعطيه رؤية حديثة، رغم توظيف أسلوب قديم، وهنا تأتي عبقرية الرجل لأن الاستعانة برؤية كلاسيكية تمنح الفيلم زخماً أبدياً. المنارة فيلم رعب آسر، لكنه حتماً ليس للجمهور، وحتى لو كانت تفاصيله غامضة في مشاهد كثيرة، إلا أننا لا نمانع مشاهدة أفلام مشابهة لو كانت بالمستوى نفسه.

• يحقق الفيلم أهدافه بوضع المشاهد في وضعية غير مريحة بعرض تفاصيل تتلاعب بالأفكار أو تشتتها.

• الفيلم يُروى من وجهة نظر وينسلو، وكلما يتخلى عنه عقله لا نتمكن من معرفة إذا ما كان يراه هو انعكاساً للحقيقة أم هلوسة.

للإطلاع على الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر