موضوع جدلي يُثار كل عام
الأوسكار.. ذوبان الحدود بين فن التمثيل واختبارات القدرة
عندما فاز النجم الأميركي ليوناردو ديكابريو بجائزة أوسكار أفضل ممثل عن دوره في فيلم «The Revenant» أو العائد من الموت، أثار ذلك الفوز حفيظة الكثير من المراقبين في هوليوود، الذين طرحوا سؤالاً وجيهاً: هل التمثيل فن أم اختبار قدرة؟ فوز ديكابريو بالجائزة ليس سوى إقرار بذوبان الحدود بين الأداء وقوة التحمل، وبالتالي تصديق النزعة السارية في أوساط الممثلين بأن من يريد الحصول على أوسكار عليه الدخول في برنامج تحولي، أي يتحول من خلاله إلى مخلوق آخر جسدياً، سواء بزيادة أو إنقاص وزنه أو إدخال نفسه في تجارب بائسة ومعاناة.
|
كاري غرانت، ثاني أفضل ممثل سينمائي في التاريخ، لم يفز بجائزة أوسكار في حياته. راسل كرو كان الوحيد الذي أبدى ندمه على التجربة، عندما زاد وزنه في فيلم «ذا إنسايدر». تحمل الألم ديكابريو بارع جداً لدرجة لا تصدق، فهو عندما يغوص بداخل الشخصية فإنك لا تراه يمثل، بل إن عقلك لا يريد تصديق هذه الحقيقة، كأنك ترى واقعاً أمامك وبنظرة متفحصة قليلاً، فإنه بإمكاننا تصور أن جزءاً من السبب الذي جعل ديكابريو يصدق هذه الفكرة ويؤمن بها (فكرة تمثيل اختبار القدرة)، هو تقمصه لأدوار تميزت بالظلامية والعنف والاضطهاد، بل إن مشهد قطع يديه بالزجاج ونزفها في المشهد الحواري الطويل في فيلم «جانغو طليقا» كان حقيقياً، لكن ديكابريو تحمل الألم وأصر على إكمال الدور إلى آخره متجاهلاً لو كان ذلك يضره. هذا يدل على أن ديكابريو آمن بفكرة أن السبيل الوحيدة للفوز بذلك التمثال الذهبي هو زيادة أو نقصان الوزن، التعرض لجروح، تغيير المظهر، إمضاء وقت طويل في العراء في ظروف جوية صعبة، الإصابة بالأمراض ونمو البكتيريا في مناطق متفرقة من الجسد، المبيت بداخل جسد حيوان، وأن أي نوع آخر من التمثيل لا يعتبر تمثيلاً. فوز ديكابريووغيره إقرار من هوليوود بأفضلية هذا النوع من التمثيل على الأنواع الأخرى، لكن على هوليوود أن تكون عقلانية أكثر عند إقرارها فكرة معينة، فممثل مثل كاري غرانت، ثاني أفضل ممثل سينمائي في التاريخ، لم يفز بجائزة أوسكار في حياته.
|
من خلال هذه النزعة، التي أصبحت نظاماً شبه معتمد في عالم الأفلام، أصبح معيار الحكم على الأداء هو مدى تأثر الجمهور بالشكل الجديد للممثل أكثر من موهبته التمثيلية، وبحجم التعاسة والبؤس اللذين يخوضهما الممثل أكثر من قدراته، ومدى قدرة الممثل على أداء دور أولئك الذين يظهرون في برامج تلفزيون الواقع لفعل أشياء مجنونة، مثل أكل لحم نيئ أو التعرض للكمة قاسية في الوجه، كأنه يثبت رجولته أكثر من تقديم عرض تمثيلي صادق، يوظف فيه مشاعره للتأثير في الجمهور.
من ناحية أخرى، فإن الأدوار الفائزة بالأوسكار باتت محصورة ضمن ممثلين يؤدون أدواراً محدودة، فإما دور مريض عقلياً، أو يعاني مرضاً مزمناً (فيلم شاين)، أو دور مشلول (مولود في الرابع من يوليو، قدمي اليسرى، نظرية كل شيء)، أو دور مشوه (الرجل الفيل، المريض الإنجليزي)، أو يضع طبقة ثقيلة من «الميك آب» ليبدو شبيهاً بشخصية تاريخية مثلاً (لينكولن)، هذا ما يحدث اليوم، إن أراد ممثل الفوز بذلك التمثال الذهبي فعليه دفع الثمن جسدياً.
هناك تسمية أخرى لنزعة الأداء التحولي، هي «التمثيل كشكل من أشكال عقاب الذات»، وهو ما أداه ديكابريو في ملحمة النجاة والانتقام «العائد من الموت». الفيلم عن صياد حيوانات في القرن الـ19، يسعى للانتقام من زميل خانه وتركه ليموت في ظروف برية قاسية. أثناء تصوير الفيلم وردت تقارير إخبارية عديدة بأنه صور في تضاريس وعرة وفي ظروف جوية صعبة وقاسية، كأن صناع الفيلم يريدون تسويق فكرة معاناتهم إلى جانب الممثل كجزء من السيناريو.
ديكابريو يجتاز ويسبح في مياه ثلجية ثم يزحف في سهول جليدية جاراً خلفه قدمه المصابة، يأكل كبداً نيئة لثور، يمتص نخاع فقرات حيوان، كل ذلك في سبيل النجاة ولكن أيضاً في سبيل الفن. ذلك يعني أن فوز ديكابريو يعزز الصورة الخاطئة بأن هذا هو التمثيل الحقيقي.
لو رأينا المسألة من هذا المنظور فسنجد أن أداء ديكابريو عبارة عن إبراز رغبته في الفوز بالجائزة جسدياً (وكذلك إرضاء عشاقه الذين انتظروا فوزه بعد 22 عاماً من أول ترشح له عن فيلم What’s Eating Gilbert Grape?). لكن هل معنى ذلك أن ديكابريو مقتنع بهذه الفكرة السائدة في أوساط هوليوود، وبالتالي كيّف نمط تفكيره لمسايرتها وانتزاع أوسكار طال انتظاره؟
نعم يبدو ذلك صحيحاً، على الأقل لو نظرنا إلى المسألة من ناحية أن ترشيحه وفوزه كانا من طينة الترشيحات الأخرى في العقود الأخيرة، أي تلك التي تعكس إخلاص الممثل الكامل والتام لفن التمثيل، عن طريق المعاناة قبل وأثناء وبعد الإنتاج (مع اعتبار أن فقدان كريستيان بيل الشديد لوزنه باقتصار طعامه على قهوة وتفاح يومياً لأداء دوره في فيلم The Machinist عام 2004 لم يضعه ضمن ترشيحات الأوسكار). للعلم إن بيل هو الممثل الوحيد الذي انتقل من طور ضآلة الجسد في الفيلم المذكور آنفاً إلى ضخامته في فيلم «باتمان يبدأ» عام 2005، قبل العودة إلى الطور الطبيعي في «ذا برستيج» 2006، ثم العودة إلى الضخامة مجدداً في «باتمان فارس الظلام» عام 2008.
في هوليوود، ذلك يسمى الالتزام بتجسيد شكل الشخصية بصورة دقيقة أمام الكاميرا لتعزيز صدقية العمل الفني. روبرت دينيرو المتهم الأول ببدء هذا الجدل في تجسيده لشخصية الملاكم الأميركي من أصل إيطالي جيك لاموتا في فيلم «الثور الهائج» عام 1980، عندما انطلق في رحلة إلى أوروبا لزيادة وزنه بهدف تجسيد الشخصية عندما تقدمت في العمر وأصبحت سمينة. دينيرو أصبح سميناً مجدداً في آخر العقد، عندما أدى شخصية آل كابون في فيلم The Untouchables عام 1987، ثم ضخم عضلاته لتمثيل دور ماكس كاندي في فيلم Cape Fear عام 1991، ما رشحه لأوسكار ثالث بعد عقد كامل من الثاني.
فوز الممثل الأميركي ماثيو مكوناهي بأوسكار أفضل ممثل لعام 2013 كان نتاجاً للأسلوب نفسه، عندما خسر الكثير من وزنه لتقمص شخصية مصاب بالإيدز يلتف حول السياسة الصحية في الولايات المتحدة آخر الثمانينات في فيلم Dallas Buyers’s Club. توم هانكس حصل على ترشيح أوسكار عن فيلم «المنبوذ»، عندما توقف العمل على الفيلم مدة عام انخرط هانكس خلاله في برنامج تخسيس وزن لتمثيل دور مهندس أنظمة سقطت طائرته في البحر وانتهى به الأمر معزولاً في جزيرة نائية. هانكس كان قد فاز قبل هذا الفيلم مرتين متتاليتين عن دور متخلف عقلياً في فيلم «فوريست غامب» عام 1994، ورجل يموت من مرض الإيدز في فيلم «فيلادلفيا» العام الذي قبله.
النجم النيوزلندي راسل كرو، كان الوحيد الذي أبدى ندمه على التجربة عندما زاد وزنه في فيلم «ذا إنسايدر» عام 1999، عن باحث كيميائي في شركة تبغ يفضح ممارساتها ويتهمها بالمسؤولية عن الأمراض التي يصاب بها المدخنون. كرو زاد وزنه وبيض شعره مرات عدة، وخاض جلسات لوضع بقع كبد وصنع تجاعيد على بشرته لإضافة 20 عاماً إلى عمره. كرو ترشح للأوسكار مقابل تلك المعاناة لكنه لم يفز، في العام التالي دخل كرو في التجربة نفسها تحضيراً لأدائه دور المقاتل في فيلم Gladiator أو «المصارع» وفاز هذه المرة، للعلم إن الفيلم نفسه فاز بالجائزة الرئيسة للمسابقة. كرو قال في تصريحات «إن تلك التجربة دمرت جسده، وإنه لم يعد كالسابق».
من النساء، أبرز مثال للممثلة هيلاري سوانك، التي فازت بجائزتي أوسكار بخوض التجربة نفسها لكن بطريقتين مختلفين: الأولى كان تحولها إلى رجل في فيلم Boys Don’t Cry عام 1999، عن القصة الحقيقية لفتاة مريضة نفسياً ومصابة بحيرة حول طبيعة جنسها، تظن نفسها شاباً وتتصرف وفقاً لذلك. فقدت سوانك وزنها وقصرت شعرها وأخفت كل معالمها الأنثوية وبدأت تتحدث وتمشي كالرجال، إلى درجة أن الممثلة صرحت بأنها نفسها أصيبت بالهلع نتيجة نسيانها حقيقة أنها امرأة، وبمجرد انتهاء التصوير سارعت بالعودة إلى طبيعتها، وأكثرت من زياراتها لصالونات التجميل لتعيد أنوثتها. الثانية كانت عندما زادت سوانك وزنها وحملت أثقالاً لتكبير عضلاتها للتحضير لدور ملاكمة في فيلم «مليون دولار بيبي» عام 2004.
أيضاً، هناك تجربة الممثلة الجنوب إفريقية تشارليز ثيرون عام 2003، ثيرون تقمصت شخصية القاتلة إيلين وورنوس في فيلم Monster أو «الوحش»، ثيرون زادت وزنها واضطرت لخوض جلسات تسخين لشعرها لإعطائه هيئة الشخصية الحقيقية، بالإضافة إلى ارتدائها طقم أسنان وإزالة حواجبها وإضافة طبقة من كريم متخصص في إزالة الوشم لتغطية جلدها لإعطائه شكلاً شاحباً. وفوق كل هذا كست جلدها بمادة خاصة للحفاظ على تلك المواد أثناء مشهد الاستحمام. وكان ذلك التحول من ممثلة حسناء جداً إلى امرأة غاية في القبح سبباً في فوزها بأوسكار أفضل ممثلة عن ذلك الدور. الطريف أن ذلك لم يمنع الرجال من التصويت لها كأكثر النساء جمالاً، بعد فوزها بالأوسكار مباشرة.
في كل عام يثار هذا الجدل، رغم أن الظاهرة مستمرة منذ عام 1980، دون أي علامات على خفوتها، ما يدل حسب المراقبين على وجود خلل في طريقة تقييم الأداء المعمول بها في هوليوود. تمثيل اختبار القدرة أو التمثيل التحولي هو تمثيل عظيم ويخدم الفيلم بشدة من ناحية تعزيز الواقعية، لكن السؤال هو: لماذا تتم مكافأته على حساب الأنواع الأخرى من فن التمثيل. لماذا لم نعد نرى أداء يتميز بالإيحائية أو المرح، للعلم إن تلك الأنواع جيدة أيضاً، لماذا لم نعد نرى أداء غير مرتبط بتجربة معاناة خاضها الممثل يكافأ عندما يكون هذا المتسم بالمعاناة ضمن إطار المنافسة.
| للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط. |
لا أحد ينكر أن دينيرو ممثل عظيم، بل هو أسطورة وكل الممثلين المذكورين في هذا الموضوع يتمتعون بموهبة كبيرة، وكذلك ديكابريو الذي لو وضع في دور يصبح ساحراً، كان كذلك في «تايتانك» وأكثر في فيلم «ذا غريت غاتسبي»، الذي طرح في العام نفسه مع «ذئب وولف ستريت» وترشح ديكابريو عن الأخير. للعلم إن ديكابريو كاد أن يترشح في فئة أفضل ممثل مساعد في فيلم Django Unchained أو «جانغو طليقاً»، لولا ترشح كريستوف وولتز للجائزة وفوزه بها عن الفيلم والفئة نفسيهما، وكلها أفلام الحد الفاصل بينها أشهر عدة، وتمتعت بأداء قوي من ديكابريو.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news

